Search
Close this search box.

الدولة المنتِجة… والكرامة الوطنية المهدورة

الدولة المنتِجة… والكرامة الوطنية المهدورة
الدولة المنتِجة كيانًا شامخًا تصنع اقتصادها وتُعلي من قيمة مواطنيها وترسم سياستها الخارجية من موقع القوة لا التبعية. المسؤول فيها يعتز بذاته لأنه يمثل بلدًا...

في تخصص العلاقات الدولية كما درسناه في العلوم السياسية تبدو الدولة المنتِجة كيانًا شامخًا تصنع اقتصادها وتُعلي من قيمة مواطنيها وترسم سياستها الخارجية من موقع القوة لا التبعية. المسؤول فيها يعتز بذاته لأنه يمثل بلدًا محترمًا والمواطن يشعر أن انتماءه ليس مجرد شعار بل تجربة معيشية تُترجم إلى كرامة وخدمات وأمان واعتزاز وطني لا يُشترى.

في المقابل تبدو الدول الريعية ـ المستهلكة ـ كظلّ تابعٍ للآخر خاضعةً لإيقاع السوق الخارجي، خالية من الإنتاج الحقيقي ومثقلةً بثقافة استهلاك لا تلد إلا التبعية والتراجع. فالاستهلاك لا يصنع كرامة ولا يخلق مواطنًا حرًّا بل يُنمي شعورًا دفينًا بالدونية والاغتراب. وهذا الاغتراب ليس فقط عن الثروة الوطنية التي تُهدر بل عن الذات الوطنية التي تتآكل.

وهنا تُصبح دولة الريع بيئة خانقة للكفاءات لأن طبيعة النظام القائم على التوزيع الريعي لا تحتاج إلى العقل المنتج بل إلى الولاء ولا تطلب الحلول بقدر ما تروّج للمجاملات. فالعقول التي تفكّر تُستثنى وأصحاب الرأي يُقصَون فيما تُعاد تدوير النخب الضعيفة والتابعة في مشهد لا يَسمح بالتصحيح ولا بالتجديد. إنها بيئة تُرَوّج للسطحية وتُعاقب الكفاءة وتكافئ الانتماء الأعمى حتى يصبح “التفوق” تهديدًا و”الاقتراح” نوعًا من التمرد!!

من هنا فإن التحليل الأنثروبولوجي يُظهر بوضوح كيف يُنتج اقتصاد الريع “مجتمع القطيع”: مجتمع يميل إلى الاتباع لا الابتكار ويبحث عن “رمز” لا عن “مؤسسة” ويُقصي الكفاءات لصالح التافهين ويقدّس الماضي على حساب المستقبل في هذه البيئة، يُخنق النقد، وتُطمس الرؤية، وتُكسر الإرادة، ويغيب المشروع الوطني الذي يوحّد ويحمي ويُنتج.

وهنا تبدو الهوية الوطنية كأنها مُجروحة… تنزف تحت وطأة الفساد والتبعية والعجز عن الإنتاج. فلا الصناعي يحترمك ولا المستثمر يراك شريكًا ولا المواطن يراك وطنًا. بينما نجد الدول المنتِجة قد تجاوزت كل هذا ، فأقامت لنفسها مكانة وهيبة تنعكس على سلوك قادتها وتَخلق في شعوبها شعورًا أصيلًا بالانتماء والاعتزاز والكبرياء.

في العراق ورغم الثروات الضخمة لا يزال منطق الريع هو السائد والكرامة الوطنية تُبادِلها الطبقة السياسية بالشعارات لا بالسياسات. وإذا لم نتحول إلى دولة منتِجة فعلًا لا إسميًا فسيبقى مشروع الهوية الوطنية هشًا ويستمر نزيف الكبرياء ويفشل المواطن في رؤية ذاته في وطنه.

ومن هنا فإن الإنتاج ليس ترفًا بل هو (شرط وجود) لأمة تسعى للكرامة والسيادة والاعتزاز بالنفس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *