في زمن التحولات الرقمية العالمية وسعي الدول المتقدمة نحو ترشيق إداراتها وتفعيل الحكومة الذكية، يُفاجأ العراقيون بطرح مشاريع تقليدية بالية كاستحداث محافظات جديدة وكأن الحل لأزمات الدولة العراقية المزمنة يكمن في توسيع الجغرافيا لا في تطوير الأداء المؤسسي.
الحديث عن استحداث محافظة الزبير او محافظة شمال واسط بذريعة “تخفيف الروتين الإداري عن المواطن”، لا يمكن التعامل معه إلا بوصفه هروبًا من الحلول الجذرية الحديثة ومحاولة لتوسيع هيكل الدولة على حساب ما تبقى من الكفاءة والمال العام. فالمواطن الذي يُقال إنه يقطع مئتين كيلومترًا للوصول إلى مركز المحافظة لا يحتاج إلى “محافظة” جديدة بل إلى “دولة إلكترونية” تضع خدماتها في جيبه، عبر هاتفه، أينما كان.
إنَّ أزمة العراق الإدارية ليست في قلة المحافظات بل في ترهل الجهاز الوظيفي وتضخم الهياكل الإدارية المقترنة بضعف الإنتاج.
لقد أصبح لدينا ملايين من الموظفين في مؤسسات بلا أثر ملموس، وبموازنات تشغيلية تستهلك ثروات البلاد دون أن يقابلها عائد خدمي أو تنموي. فهل نزيد من عدد تلك المؤسسات في لحظة عجز مالي وركود اقتصادي وتراجع في القدرة التخطيطية؟
إن ما نحتاجه فعليًا ليس محافظة جديدة بل عقلًا إداريًا جديدًا. عقل يؤمن بالحوكمة الرشيقة، والرقمنة، والتوزيع الذكي للموارد، وتفويض الصلاحيات ضمن وحدة إدارية قائمة بدل تفكيكها. فالمشكلة ليست في البُعد الجغرافي بل في بُعد الدولة عن التطور الإداري، وتخلفها عن اللحاق بركب التكنولوجيا الحديثة التي تحوّل المسافة إلى نقرة على الهاتف.
الدول المتقدمة تجاوزت مثل هذه الطروحات منذ عقود، وركّزت على بناء حكومات ذكية تُنتج خدماتها عن بُعد، وتُقلل من التكاليف والهياكل، بينما ما يُطرح اليوم في العراق من دعوات لتفتيت المحافظات، يعكس حالة خطيرة من فراغ الدولة من الكفاءات والخبراء، وهيمنة الخطاب اللحظي على مساحات القرار.
كل من يطرح هذا المشروع، يقدّم نفسه بوصفه “منقذًا إداريًا”، بينما في الحقيقة، هو يعمّق الأزمة، ويُكرّس ثقافة المحاصصة، ويوسّع من مساحات النفوذ السياسي على حساب وحدة الدولة وكفاءتها.
استحداث محافظة
جديدة يعني:
-تأسيس محافظة كاملة بهيكل إداري ضخم (محافظ، نائبان، رئيس مجلس محافظة، ونائبان ، اعضاء مجلس محافظة ، مديريات، دوائر، قيادة شرطة… إلخ).
-استحداث درجات وظيفية ومالية جديدة في ظل موازنة تعاني أصلًا من التشبع.
-إنتاج حل وهمي لمشكلة حقيقية، والالتفاف على أصل الداء: فشل الحكومة في بناء بنية تحتية رقمية شاملة.
من المؤسف أننا في عام 2025 ما زلنا نناقش طرحًا كهذا في وقت أصبح فيه التحول الرقمي هو مقياس كفاءة الدول.
دول كالإمارات على سبيل المثال، أطلقت وزارات خاصة بالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي لتقود مشروع الحكومة الذكية، وتُغني المواطن عن مراجعة الدوائر. فيما نناقش نحن في العراق كيف نزيد عدد المحافظات لا كيف نُقلص الحلقات البيروقراطية.
حتى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي اتُّهم بالانغلاق أعلن إلغاء وزارة التعليم العالي الاتحادية، ووجه بتمويل الجامعات من القطاع الخاص مقابل مشاريع إنتاجية في محاولة لتقليص دور الدولة في الهياكل غير المنتجة وتحفيز الابتكار.
إن الطرح القائم على “استحداث محافظات” يُعدّ مؤشرًا خطيرًا على إقصاء الكفاءات من دوائر القرار،
وترسيخ التفكير الانفعالي بعيدًا عن التخطيط العلمي التي تسوّق للأوهام الإدارية. لا تنمية دون عقل مؤسسي. ولا إصلاح دون الإيمان بالتكنولوجيا بديلاً عن الجغرافيا، وبالكفاءة بدلاً من الولاء.
وأخيرًا نقولها بصوت مرتفع:
كرامة المواطن لا تُصان بتقسيم أرضه، بل بحكومة ذكية تحفظ وقته، وجهده، وكرامته.
إن العراق لا يحتاج إلى محافظات جديدة بل إلى وعي جديد.