القانون المدني العراقي: بين ازدواجية الأحوال الشخصية وحاجة الدولة إلى إصلاح موحّد

القانون المدني العراقي: بين ازدواجية الأحوال الشخصية وحاجة الدولة إلى إصلاح موحّد
يناقش النص إشكالية قوانين الأحوال الشخصية في العراق، داعياً إلى إصلاح القانون المدني ليعكس الواقع الديموغرافي ويحمي التنوع، مع ضمان العدالة وحقوق الأقليات، بدلاً من ترسيخ الازدواجية القانونية والانقسام الطائفي....

يشهد العراق منذ عقود جدلا متصاعدا حول قوانين الأحوال الشخصية، وقد بلغ هذا الجدل ذروته مع إقرار “المدونة الجعفرية” في آب/أغسطس 2025 كخيار قانوني للأغلبية الشيعية، إلى جانب استمرار القانون القائم على الفقه الحنفي السني، ما خلق نظاما مزدوجا رسميا.

لكن يبقى السؤال الأعمق:

-هل تكمن العدالة في إنشاء مدونات منفصلة، أم أن الحل الأمثل هو إصلاح القانون المدني نفسه ليعكس واقع المجتمع ويحمي تنوعه في آن واحد؟

  • جذور المشكلة

القانون المدني العراقي، وقانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959، تأسسا في حقبة كانت فيها النخب السنية هي المهيمنة على الحكم، فجرى اعتماد الفقه الحنفي بوصفه الإطار التشريعي السني الأقرب إلى “الحداثة” آنذاك.

غير أن هذا الترتيب لم يحدّث جذريا مع تغيّر البنية السياسية، وظل يفرض على أغلبية شيعية واقعية ممارسة شعائرها الفقهية خارج النظام القضائي الرسمي، عبر عقود زواج وطلاق وقضايا اسرية تتعلق بالإرث والحضانة وغيرها تحل دينيا ثم تسجّل لاحقا لدى المحاكم.

  • بين الواقع الديموغرافي وتحديات العدالة

يشكّل الشيعة في العراق نحو 65% من السكان على اقل تقدير، مقابل 25% من العرب السنة، وقرابة 10% من الأقليات الأخرى.

هذا التباين أفرز فجوة بين القوانين المطبقة والواقع الاجتماعي، ما دفع باتجاه المطالبة بمدونة خاصة تعكس هوية الأغلبية.

وقد لبّى البرلمان هذا المطلب جزئيا عبر إقرار “المدونة الجعفرية”، التي اعتبرها مؤيدوها خطوة لحماية الحقوق، فيما رآها منتقدون تهديدا لوحدة القانون وتعقيدا إضافيا للإجراءات، خاصة في قضايا تتداخل فيها اختيارات أطراف متعددة.

  • نحو إصلاح موحّد بدلا من ازدواجية موسّعة

إن تأسيس نظامين قانونيين متوازيين قد يكسب شرائح شعورا بالتمثيل، لكنه على المدى الطويل قد يعمّق الانقسام ويضعف الدولة.

فالبديل الأكثر عدلا واستقرارا يكمن في تحديث القانون المدني نفسه، ليكون قانونا موحدا عصريا، مستمدا من الفقه الجعفري بوصفه المذهب الأغلب، مع منح المصادر الإسلامية الأخرى وضعها الطبيعي، وضمانات دستورية لحقوق الأقليات، بما يوازن بين الهوية الدينية والالتزامات المدنية والحقوق العالمية للإنسان.

  • خطوات الإصلاح الممكنة

-مراجعة شاملة للقانون الحالي ليصبح متوافقا مع فقه المذهب الجعفري، مع إعطاء مساحة لمذاهب أخرى.

-إطار قانوني للأقليات يسمح لها بتنظيم شؤونها ضمن الدولة دون الحاجة إلى نظام قضائي مواز.

-هيئة قضائية عليا مستقلة تضمن التوافق مع الدستور والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، خاصة في قضايا المرأة والطفل.

-توعية مجتمعية لشرح الخيارات القانونية وخلق وعي يحصّن المجتمع من الاستغلال السياسي والديني للملفات الشخصية.

  • خلاصة

التحدي الأكبر أمام العراق ليس في ترجيح مدونة على أخرى، بل في بناء منظومة قانونية مدنية عادلة، موحّدة، تعكس واقعه الديموغرافي والسياسي، وتحمي نسيجه الاجتماعي.

إصلاحٌ كهذا لا يحلّ أزمة الأحوال الشخصية فحسب، بل يعيد الثقة بين المجتمع والدولة، ويؤسس لعدالة مستدامة تتجاوز الطائفية والازدواجية نحو دولة مواطنة متماسكة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *