Search
Close this search box.

الواقع الثقافي في العراق بعد انقلاب 1963 و دور الهجرات الثقافية في تشكيله

الواقع الثقافي في العراق بعد انقلاب 1963 و دور الهجرات الثقافية في تشكيله
لم يكن انقلاب الثامن من شباط عام 1963 حدثاً عابراً في الساحة العراقية انحسرت تأثيراته على الواقع السياسي فقط ، وانما امتدت لتشمل الجوانب الاخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية...

لم يكن انقلاب الثامن من شباط عام 1963 حدثاً عابراً في الساحة العراقية انحسرت تأثيراته على الواقع السياسي فقط ، وانما امتدت لتشمل الجوانب الاخرى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ،فقد اصبح للمؤسسة العسكرية اليد الطولى والكلمة العليا التي تتحكم فيها بمقاليد الامور فأقصت شركاءها السياسيين بمـــــــــا فيهــــم( البعث) شريكها في الانقلاب ، وعلى اثر ذلك تبدلت ملامح الحركة الثقافية بفعل هيمنة العسكر وبات على المثقف في العراق والشاعر منه على وجه الخصوص البحث عن مأمنه أولاً ، قبل ممارسته الدور المرسوم له في توعية المجتمع، وقيادته ، فأجهزة السلطة كانت تتحين الفرص لاقتناص من يُناوئها لتزجه فــــــــي اقبية سجـــــــونها، فقد تعرضت الحركة الشعرية في العراق في الحقبة المحصورة بين عامــــــــي( 1963-1968م)إلى حالةٍ من الانكسار والتشظي والانحراف العنيف عن المسار الذي اختطه الشعراء الرواد لها ، وبدت منقسمة على نفسها تتنازعها تياراتٌ متباينة في رؤاها لكثيرٍ من القضايا التي لامست جوهر الثقافة العراقية كالنظرة للتراث وفهم مضمون الحداثة والموقف من الثقافات الوافدة وغيرها من القضايا الاخرى.

ومنذُ ان اقُصيَ من السلطة في الثامن عشر من تشرين الثاني من عام 1963م عمل البعث على إعادة تنظيم صفوفه ومراجعة تحركاته فشكل خلايا تنظيمية نائمة واجهزةً قمعية مهمتها تهيئة المناخ المناسب لاستعادة زمام الامور مرة اخرى وتم له ذلك بعد ان تحالف مع شخصيات عسكرية ما لبث ان اقصاها هي الاخرى بعد نجاحه في انقلاب السابع عشر من تموز عام 1968م وتلافى ما وقع فيه من اخطاءٍ في الماضي.

لقد ادرك البعث اهمية المؤسسة العسكرية ودورها في الحكم فعمل منذ لحظات تسنمه الاولى لمقاليد الحكم على تبعيث هذه المؤسسة وتطهيرها من العناصر غير المؤيدة لسياساته ، ومن خلالها تمكن من ان يفرض هيمنته الشمولية على البلاد متخذاً من القمع والاستبداد  منهجاً يسوس به امور الرعية ، فقد شن حملاتٍ عسكرية على شمال البلاد بغية اخضاع الانتفاضات الشعبية طيلة عقد السبيعنات المنصرم ، وعلى اثرها هجرت اعداد كبيرة من ابناء القومية الكردية إلى مناطق صحراوية في الوسط والجنوب فيما طُرد الالاف منهم خارج الحدود لأعذارٍ واهية.

اما في العاصمة والمدن الاخرى فقد كانت سطوة بطشه لا تقل اجراماً وتدميراً عما فعله في شمال البلاد ، اذ وضعت البلاد رهن تصرف اجهزة قمعية اعتقلت الالاف من ابناء المجتمع وزجتهم في اقبية سجونها بذرائع واهيةٍ وتهم مدبرة.

إنّ نظرةً متفحصةً لتاريخ السلطة منذ تشكلاتها الأولى، تُظهر انها لم تستطع أن تحقق علاقات تواصلية، أو حوارية مستديمة مع الطرف المضاد لها، لأنّها منكبة على تحقيق ذاتها ومآربها النفعية الخاصة والمغلقة والهادفة إلى تحجيم العلاقة في إطار ضيق هو علاقة التابع بالمتبوع .

غير أن السلطة – في أحيان كثيرة – قد تخلت عن نمطها الإيديولوجي هذا، وتزينت بسرابيل المداهنة ، من أجل استقطاب الطرف المعرفي وتقريبه منها وتأسيس خطاب مداهن جديد، يهدف إلى الالتفاف على المثقف وتعطيل طاقاته الثقافية المعارضة، وتفعيل أدواره الوظيفية التي تحقق السلطة من خلالها منافعها الخاصة، وذلك بجعله بوقا من أبواقها، وأداة مسخرة لتحشيد المد الجماهيري المؤيد لأفكارها وتطلعاتها، أو مسوغا لأيديولوجيتها. وهذا كثيرا ما يحدث في الازمات السياسية وأيام الحروب و الخوف من تصاعد دور المنافس السياسي في الساحة الجماهيرية، إذ تستنفر السلطة كل طاقاتها المادية والدعائية من أجل الحصول على رضا المثقف واستقطابه ضمن فلكها، ملوحة له بأماني عريضة، لكن حاجة السلطة إلى مثل هذا المثقف مقترنة في إطار هذا الزمن المعين.

إنّ افتقار السلطة إلى المعرفة بوصفها وسيلة ايديولوجية لغرض تحقيق الهيمنة بكل أبعادها وحدوث الثبات والاستقرار السلطوي، حتم عليها  أن تقيم علاقات مهادنة أو مخاتلة مع المثقف، بوصفه اداة تمارس المعرفة وتنتجها، فهو المالك لزخم المعرفة، بينما السلطة تتـــــقوقع في مجال الاستهلاك السلــــــبي فقطـــــ الأمر الذي حدا بها إلى السعي نحو استعادة المعرفة لتدجين الواقع و امتلاكه، فحاجتها إلى المعرفة تنبع من ادراكها ان الاخيرة تمثل قوة كامنة تمتلكها النخب المفكرة ، وهي قادرة على التأثير في الوسط الجماهيري ، فالسيطرة على المعرفة  وامتلاكها يعني بشكلٍ او بآخر احكام القبضة وتحريك دفة الامور بثقةٍ واطمئنان، ومن هنا انطلقت فكرة الجبهة القومية بوصفها عنواناً فضفاضاً تجمع به السلطة اكبر عدد من المثقفين، ليكونوا لها ابواقا دعائية وبيادق تقاتل بهم الخصوم والمناؤين لها ،غير ان بنيان هذه الجبهة كان قلقاً ورجراجاً فأساسها يستند على غلبة البعث ، وضعف الآخر وانحسار تأثيره لتبدو العلاقة بينهما علاقة مخاتلةٍ قلقة سرعان ما انهارت بعد ان تأكد للسلطة انها حققت ما تصبو اليه من مطامح.

لقد ظهرت سياسة اكثر شمولية وتعقيدا حين قرر البعث الاستئثار بالسلطة لنفسه، واقصاء الشركاء الاخرين حتى من داخل الحزب نفسه ، وهو ما تم في ما عرف بانقلاب البعث على نفسه عام 1979م، ومن قبله حين انهارت الجبهة عام 1978م اذ كان هاجس المؤامرة والانقلاب لا يفارق مخيلة السلطة الحاكمة واصبحت تهم الخيانة جاهزة لكل من يعارض نهجها يقول صدام حسين في خطاب له: (ان بعض الناس يمكنه ان يتصور ان الثورة لا تدري بما يدور حولها، ان عيون الثورة مفتوحة على اتساعها وستظل الثورة خلال جميع مراحلها قادر على القيام بدورها  بشجاعة ودقة دون تردد، ودون ان تصاب بذعر متى قامت بالعمل على تحطيم الجيوب المضادة لها) ،ومن المعروف ان نظم الطغيان والديكتاتورية تلجا إلى العنف عندما تتدهور سلطتها، لكن البعث انفرد عن غيره في هذا الجانب ، اذ لم يكتف بانتهاج العنف وانما احدث وضعاً خاصاً به، اذ عمد إلى تنظيم العنف بابتداعه لأعداء مفترضين جرى تصفيتهم بمنتهى القسوة والظلم لإرهاب الخصوم ، وليس التلويح لهم بالعنف، ومن منطلق تلك الاحداث كان المثقف العراقي امام خيارين لا ثالث لهما فإما ان يصمت ثقافيا او يهاجر طلبا للحرية والامان فثالث الخيارات يعني ان يكون في خندق السلطة وبوقاً من ابواقها.

لقد اوقعت هذه المرحلة السياسية الحرجة النتاج الشعري العراقي في منزلق التشظي والانقسام تبعاً لانتماء الشعراء الايديولوجي وانعكست هذا التشظي حتى على مضمار النقد الادبي الذي انقسم بين مؤيدٍ يرى فيه امتدادً وحلقةً متصلة بسلسة الشعر العراقي تعبر عن( واقع الحياة …. وعن النهوض والعزم التحرري في حياة الامة، من خلال التلاحم الحميم بالثورة والاحتفاء بالتغيرات الجارية على المستويين الوطني والقومي، دون ان تنسى عذابات الماضي، أو تنسى القهر والاستلاب الذي يعاني منه الانسان الحاضر) والقائلين بهذا هم ممن تصدر رؤياهم عن تناغم فكري مع رؤيا البعث للثقافة بصورةٍ عامة والادب على وجه الخصوص، اما الرؤية الأخرى فيرى القائلون بها أن اصحاب هذا النتاج بلا تطلعات شعرية وأنهم يفتقدون  إلى أي حماسٍ روحي ، ولا يريدون لقصائدهم أن يكون لها فضاءٌ جديدٌ من الابداع.

وحين بزغ فجر العقد الثمانيني على العراق فإنه فتح عينيه على مشهد دموي فرش ظلال ثقافته على المجتمع ، وكان الشعراء في طليعة ضحايا ذلك العنف والتعسف الاعمى فكانوا شهوداً وشهداء ، وضحايا ومنتظرين ومتفرجين على اخطر حقبةٍ شهدتها البلاد وكان معظمهم قد أرسلوا إلى لهيب السواتر الامامية واكتووا بنيران معاركها الشرسة ، فانعكست مشاهدها الدامية وواقعها المرير على نتاجهم وافكارهم فنبتت صورها على اجساد قصائدهم كما ينبت العوسج .

لقد كان لزاماً على كثيرٍ من الشعراء العراقيين ان يمجدوا الدكتاتور ويعلو من شأنه ، ويكيلوا له صفات المدح والثناء، فهو الملهم الأوحد، وهو المبدع في كل شيء  يقول حميد سعيد واصفاً طبيعة العلاقة –المزيفة-  بين المثقف وشخصية الدكتاتور:( ان صورة العلاقة بين القائد والمثقف العراقي تبدو عسيرة على ادراك بعض المثقفين العرب والذين تعودوا أن يروا حكام بلدانهم ، أما نحن فلسنا بقادرين على تبيين ملامح القائد صدام حسين، وإنما نعرف فيه الاخ والرفيق والمعلم والقائد، فله قاموسه الدقيق في توصيف الاشياء حتى كأن علاقته باللغة مثل علاقة الصائغ الماهر بالذهب ، وطالما فاجأتنا لغته وصياغته لأفكاره ، فهو يجمع بين دفق الشعر ودقة الفقه وباسمرار تكون المفاجأة بين اوساط اهــل الشعر وذوي الادب اكبـر مما هي عليه في اوسـاط سواهم) .

لقد سعت السلطة في العقد الثمانيني إلى تحويل المثقف إلى مجرد بوق او مهرجٍ او تابعٍ جاهزٍ تحت الطلب ، فحين تتخاصم مع دولةٍ ما ، أو ايديولوجيةٍ منافسة لها تريده أن (يــــشتم تلك الدولة أو ذاك الفكر، قارعاً معهـــــا طبول الحرب عليــــه ،وحين تتصالح تريـــده أن يمتدحها ويمجد السلام.. تماماً كأنه سلع استهلاكية تلجأ اليها متى ما دعتها الحاجة، لذلك نراها، وفي اكثر من موقف تسخر من المثقف وتتنكر له وفي كثيرٍ من الاحيان تنظر اليه بنظرة استصغار وتحقير).

لقد مر الشاعر العراقي في زمن الحرب بظروف استثنائية اجبرته على الانغماس في الحرب التي لا يرى لها سبباً مقنعاً سوى النزوات والمغامرات الفردية لجنرالات متهورين متعطشين لسفك الدماء وكان الاشتراك في تلك الحروب امرٌ حتمي بالنسبة للشاعر ليس من باب الدفاع عن وطنه وانما لأجل حماية عائلته من بطش السلطات وتنكيلها حين يرفع صوته محتجاً على رهاناتها الخاسرة، فتكون حياة عائلته بأكملها عرضة للخطر المحدق بهم وحتى عندما يهرب من ارض المعركة فان فرق الاعدام الكامنة في الخطوط الخلفية ستكون له بالمرصاد.

لقد بلغت قسوة البعث ذروتها في العقد التسعيني خصوصاً بعد الانكسار العسكري، والهزيمة المدوية التي منيت بها القوات العسكرية العراقية في حرب الكويت، فما ان وضعت الحرب اوزارها بدأ النظام بتجميع قواته العسكرية من جديد  وشرع بالهجوم على المدن العراقية المنتفضة بوجهه محدثاً في تلك المدن خسائر كبيرة بالأرواح والممتلكات ، فقد قضى الالاف نحبهم بسبب القصف المدفعي او بالغازات السامة التي القيت على المدن المنتفضة ، او بالإعدامات الجماعية التي نفذتها المحاكم العسكرية الميدانية ، وسويت جثثهم بالأرض في مقابر جماعية ندر ان يوجد مثيلٌ لها في تاريخ البشرية الحديث، ولم تكتفِ السلطة بهذا القدر من البطش والتنكيل ، بل زادت من اجراءاتها التعسفية ، اذ اصدرت عدداً من القرارات التعسفية الجائرة : منها القرار(109) الصادر في 18/8 /1994م،  والذي نص على (ان الاشخاص الذين يكررون ارتكاب  الجريمة التي قطعت بسببها اكفهم ستكوى جباههم بخطين متقاطعين على هيئة علامة ضرب على ان يبلغ طول كل خط منهما  سنتمتر واحد وعرضه ملمتر واحد) ، وسط هذا العالم المرعب أُلزم المثقف العراقي بالسير قسراً على الأنموذج القومي الشوفيني الذي فرُض عليه مُنذ انهيار الجبهة القومية دون احداث اي تغيير يمكن ان ينتشل القصيدة من عالم الجمود والسطحية التي ركست فيه بفعل المنزلق الذي سيقت إليه بالإجبار.

وتأسيساً لذلك فإن الأنموذج الشعري الذي انتجته الثقافة السلطوية في عقد التسعينات كان يواجه المصير ذاته الذي واجهه سلفه العقد الثمانيني؛ فهو اسير القوالب الجاهزة المصنعة التي تجافي الحقيقة والموضوعية وتسعى للتزييف والخداع والمخاتلة، فالشاعر التعبوي لم يعد ناطقاً بلسان قومه او مدافعاً عن حقوقهم ؛ وانما صار يردد شعارات السلطة ذات المحتوى الفارغ؛ فتكتب لكي تتكسب مما تقذفه قرائحها من قيئ وبيء يمتدح الحاكم ويعلي من شأنه على حساب معاناة مجتمعه وظلامات ابنائه على يديه، ولان الشاعر إنسان ثوري يجعل من قضايا الأمة وتطلعاتها سلاحاً يشهره بوجه الرجعية والاستبداد والظلم ، فقد كان الشعراء العراقيون في طليعة الثوار المنتفضين على الظلم والطغيان ومن اكثر شرائح المجتمع تضررا منه ،إذ قدم العديد منهم دماءهم على مذبح الحرية ؛والكرامة فيما اختار الاخرون الخروج من ارض الوطن تمهيداً للعودة اليه مرة ثانية لتحريره من براثن السلطة.

إن حُصول المواجهة بينَ الُسلطةِ وبين الُمحرضين والعاملين على تغييرها أمرٌ لاُبدَ منهُ ؛ لأنَ لُكلِ فعلٍ ردَّ فعل ، فمَنهجُ الُسلطة المُكتسي بالظلم يُواجهُ برد فعلٍ آخر من أولئكَ الذين يَعتَقُدون أن حقوقهم ضائعةٌ ومسلوبةٌ فتَكون المواجهة بينَهم وبين السلطة ذات طبيعةٍ عنيفةٍ في كثيرٍ من مراحلها وتطوراتها الأمر الذي يجعل من هؤلاء الشعراء أبطالاً مُنسجميَن فكراً وعملاً (وهذا لا يَعني أن الشُعراء يتَخلونَ عنْ مُهمتهم ليَنصرفوا كُلياً إلى السياسةِ ، بلْ أن هذهِ الأخيرة تَنتجُ عن الشعر الذي يأتي أولاً وقد تكون تجربة الشاعر سياسية تحمل إلى المضمون مواقفه وآراءه) لقد ادرك الشعراء العراقيون اهمية السلاح الذي يمتلكونه وهو الكلمة الشاعرة ؛ فأسهموا بها في معركة المصير التي يحارب بها المجتمع كله إيماناً منهم بان مصيرهم رهن بمصير الجماعة ، وليست الكلمة الشاعرة هنا مجرد إشارة إلى انتماء الكلمة إلى عالم موسيقي ؛أو تصويري أو وجداني فحسب وإنما هي اشارة بصفة أساسية إلى مجموعة المبادئ التي تشكل العقيدة العامة للشاعر والمجتمع على السواء ؛فهي تمثل كل القيم التي يحارب المجتمع معركته من اجل تقريرها وتحقيقها وفي قمتها حرية الإنسان. وهذا ما نجده في القصائد التي واكبت قيام الانتفاضات والحركات الشعبية ضد السلطة وما تلاها من احداثٍ لدى كثيرٍ من الشعراء العراقيين الذين ذبوا عن حرية بلادهم بالكلمة والبندقية.

لقد هاجرت اعداد كبيرة من الادباء والمثقفين إلى خارج البلاد طلبا للحرية واحتجاجاً على الواقع الراهن خصوصا وأن قيادات الاحزاب التي كانت مشتركة في الجبهة المنهارة قد اصدرت توجيهات إلى المثقفين من اعضائها بضرورة مغادرة البلاد ، كما ان التسهيلات الممنوحة من قبل سلطة البعث باتباعها لسياسة غض الطرف عن هجرة المثقفين المناوئين لها ساعدت على هجرة الكثيرين ، وهذه الهجرة هي الاولى في العراق الجمهوري ويمكننا تحديد هذه الموجة من الهجرة بين عامي 1978-1979م اذ هاجرت اعداد كبيرة من المثقفين العراقيين ( شعراء وفنانين وكتاب وغيرهم) وعلى ما يبدو فإن العامل السياسي هو الباعث الاساس  لتلك الهجرة ومن الملاحظ ان معظم المهاجرين قد استقر بهم المطاف في دول الجوار الاقليمي مثل سوريا وايران ولبـــنان والاردن وبعـــض دول الخلــــيج العربـــي، وقد انخــرط عددٌ كبيرٌ منهم في مهمات قتالية ضد السلطة او مع منظمات فلسطينية قاتلت الصهاينة في لبنان وفي تلك المهاجر أنشأ العراقيون تجمعات واتحادات ومنظمات ادبية بهدف تقريب الرؤى وتوحيد الجهود لبلورة خطاب ثقافي مناهض لسلطة البعث.

اما الموجة الثانية من الهجرة فقد حدثت بعد الهزيمة العسكرية في حرب الكويت وقمع الانتفاضة الشعبانية عام 1991م؛ اذ فرت اعداد كبيرة من المثقفين إلى بلدان الجوار وإلى الصحاري الواسعة  في الجزيرة العربية خوفاً من بطش النظام ؛ نتيجة لاشتراك اغلبهم في الانتفاضة الشعبانية فبنت الامم المتحدة للاجئين العراقيين مخيمات في مناطق رفحاء والارطاوية في المملكة العربية السعودية تفتقر الى ابسط مستلزمات الحياة الكريمة؛ ومن تلك المخيمات انتقل عدد منهم للاستقرار في دول أوربا وامريكا و انحاء العالم الأخرى وفي هذه الموجة من الهجرة يكون الدافع السياسي هو ايضاً السبب الاساس المحرك لها .

وتأتي الموجة الثالثة وهي الاكبر والاوسع  مما سبقها من موجات الهجرة ؛ فهي التي حصلت عام 1994م وما بعده إذ كانت دوافعها الرئيسة هي ضنك الحياة بفعل الحصار الاقتصادي الذي فرض على العراق كأحد نتائج هذه الحرب التي أعادت العراق إلى عالم ما قبل الصناعة ، ومتاجرة النظام بهذه العقوبات المفروضة دوليا لنيل مكاسب له ، مع استمرار حالة الخوف التي تولدت لدى كثيرٍ من العراقيين بعد القسوة التي أبداها النظام في مواجهة انتفاضة آذار ، فالوضع المضطرب الذي انتاب العراق طيلة فترة الحكم وما صحبه من ترد اقتصادي وثقافي كانت نتيجته الحتمية ان انساق المجتمع أمام موجة من العلل والمزالق التي اضعفت الكيان الاجتماعي، وهددت حياة ابنائه بضروب الرزايا والمحن حتى وجدوا أنفسهم في جو خانقٍ مشبع بمظاهر الفساد والفقر والمرض وفقدان الأمل وجهل مطبق عمل على تنمية اخطر العلل وأعمقها ساعد على ذلك كله الإهمال المتعمد من جانب السلطات التي كانت حريصة أبدا على إبقاء الأوضاع على ما كانت عليه  فنزف العراق نتيجة هذه الهجرة خيرة أبنائه من أصحاب الكفاءات العلمية والأكاديمية حتى وصلت أرقام المهاجرين إلى مئات الآلاف .

لقد انشأ المثقفون العراقيون في مهاجرهم كثيراً من الروابط والمنظمات والتجمعات الثقافية ، واصدروا عدداً من الصحف والدوريات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي اخذت على عاتقها ابراز صورة الثقافة العراقية بعيداً عن مظاهر التزييف والخداع التي الحقها بها دعاة السلطة وابواقها المأجورة ، ومن خلالها بينوا مظلومية شعبهم وتطلعاته للتحرر والانعتاق من ربق الدكتاتورية والاستبداد بما نشروه من اعمالٍ ابداعية استطاعت ان تتجاوز بخطى واثقة ما مرت به من عقبات وظروفٍ استثنائية ؛حاولت تكبيلها وارغامها على التقهقر والنكوس إلى حضيرة السلطة مرة اخرى بعد ان رأت عظم الخطر الذي يتهددها من تنامي هذا الفرع الاصيل من الثقافة العراقية بعيداً عن هيمنتها ، فراحت تضع العصي في عجلة تقدمه المتسارعة وتثير حوله الشكوك والشبهات وتولد الاشكالية تلو الاشكالية املاً في اقصائه وتهميشه وثنيه عن تأدية دوره والمهمة التي انيطت به لكنه بقي مخلصاً لوطنه مختاراً لطريق الحق الموحش على الرغم من ذلك كله، فهو يعلم أن( موهبة الشعر وكتابته .. امتياز يتحمل صاحبه مسؤولية اجتماعية واخلاقية   تجاه ابناء وطنه من حيث الكتابة عنهم والدفاع عن حقهم في فرص الحياة كاملة واعلاء صوتهم ازاء الاستلاب الذي لحق بهم) .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *