في ميدان السياسة الدولية، لا تُرسل التهديدات عبثاً، بل تُكتب بحروفٍ نارية على جدار السيادة. ثلاث رسائل بعثتها إحدى السفارات الكبرى إلى أروقة القرار العراقي، حملت بين سطورها تهديداً مبطّناً وضغطاً معلناً:
١. تجميد شريان النفط عبر استهداف شركة سومو بعقوبات خانقة.
٢. خنق الدورة المالية للدولة عبر ضرب مصرف TPi، بوابتها الوحيدة إلى الأسواق العالمية.
٣. وصم هيئة الحشد الشعبي على لوائح الإرهاب إن صوّت البرلمان على قانونه، وكأن الدفاع عن الوطن صار جريمةً في ميزان القوى الكبرى.
وفي المقابل، يُلوِّح رئيس الوزراء بسلة مقترحات مؤقتة، تُؤجِّل التصويت، ولا تحسم أصل المعركة: معركة الاعتراف بالحشد كجزءٍ أصيلٍ من منظومة الدولة، لا كضيفٍ عابرٍ في دهاليز السياسة.
جوهر الصراع
هذه الضغوط ليست نزاعاً تشريعياً عابراً، بل هي محاولة مدروسة لإفراغ العراق من ركيزة ردعه، وتذويب الحشد في مؤسساتٍ بيروقراطية تُفرِّغ جوهره من معناه، ليصبح جسداً بلا روح، وهيكلاً بلا بأس. إنّها إرادة إقليمية ودولية لتفكيك العقدة الأصعب في معادلة أمن العراق والمنطقة، حتى يُعاد رسم خرائط النفوذ من سوريا إلى لبنان مروراً ببغداد.
في سياق تاريخي أعمق، يمثل الحشد الشعبي امتداداً لتراث المقاومة العراقية ضد الغزوات الخارجية، حيث شكل منذ تأسيسه في 2014 رد فعل شعبياً عفوياً على فتوى الجهاد الكفائي، مما ساهم في هزيمة تنظيم داعش واستعادة السيطرة على أراضٍ شاسعة. إن محاولات تهميش دوره اليوم تعكس استراتيجيات دولية تهدف إلى إعادة تشكيل التوازنات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، مستفيدة من التباينات الداخلية العراقية لفرض نموذج أمني يعتمد على التحالفات الخارجية بدلاً من القوى الوطنية المستقلة، مما يهدد بإعادة إحياء الفراغات الأمنية التي سادت قبل عام 2014.
المخاطر المحدقة
- تذويب الحشد يعني خسارة صمّام الأمان الذي ردع الإرهاب وحفظ هيبة الدولة.
- العقوبات الاقتصادية تعني تجفيف موارد الأمة، وزعزعة قوتها المالية، وإرباك حياة الشعب من أقصاه إلى أقصاه.
- الصمت الشعبي أمام هذه التدابير هو تفويض غير معلن بتفكيك الركيزة الأقوى في منظومتنا الأمنية.
الموقف المطلوب
إنّ الحكمة السياسية لا تعني الخضوع للابتزاز، بل تعني إدارة التوازن بين الإرادة الوطنية والضغوط الخارجية. ينبغي:
- ترسيخ وعي جماهيري نافذ يدرك أنّ المسألة ليست صراع قانون بل معركة وجود.
- إلزام الحكومة بالشفافية في كشف فحوى الرسائل والتهديدات، كي لا يُتخذ القرار في الظل.
- تثبيت الحشد بقانون سيادي يحفظ استقلاليته تحت راية الدولة، لا ذوبانه في مؤسسات تُفرغ رسالته.
- مواجهة الابتزاز الدولي بالدبلوماسية الذكية، عبر شراكات بديلة، وتوازنات إقليمية تحمي مصالح العراق العليا.
الختام
يا أبناء الرافدين، الحشد ليس رقماً عابراً في معادلات السياسة، بل هو دمٌ امتزج بتراب الوطن، وحائط صدٍّ لا يُشترى ولا يُباع. إنّ الرضوخ لهذه الضغوط خيانة للتاريخ ولدماء الشهداء، والوقوف بوجهها حفاظ على حاضر العراق ومستقبله.
إنّها دعوةٌ للوعي قبل أن تكون دعوةً للموقف؛ فمن وُلد على أرضٍ عُجنت بطينها دماء المقاومين، لا يجوز له أن يسلّم مفتاح الأمان بيد الغريب.


