تحليــة ميــاه البحــر الطريق نحو أمنٍ مائيٍّ مستدام في البصرة

تحليــة ميــاه البحــر الطريق نحو أمنٍ مائيٍّ مستدام في البصرة
توضّح الدراسة أهمية تحلية مياه البحر كخيار استراتيجي لحل أزمة الملوحة في البصرة، مستعرضةً مراحل التحلية وتكاليف البناء والتشغيل، ومؤكدةً أن محطة كبرى قادرة على تأمين أمن مائي طويل الأمد للمحافظة....

تُعدّ تحلية مياه البحر من أهم الحلول الاستراتيجية التي تلجأ إليها الدول الساحلية لمعالجة نقص المياه العذبة وتأمين احتياجاتها المنزلية والصناعية والزراعية .

وفي ظل الضغوط البيئية والمناخية التي تعاني منها محافظات الجنوب وعلى رأسها محافظة “البصرة” يصبح هذا الخيار أكثر إلحاحاً وواقعية ، وفيما يلي عرضٌ تفصيلي لآليات التحلية ، وتقنياتها ، وتكلفتها ، والجدوى الاقتصادية لإنشاء محطة ضخمة بطاقة مليون متر مكعب/ساعة .

أولاً: مراحل معالجة وتحلية مياه البحر:

تمر مياه البحر قبل أن تصل إلى مرحلة التحلية بسلسلة من الإجراءات الفنية الدقيقة تهدف إلى إزالة الشوائب والعوالق لضمان كفاءة العملية وتقليل استهلاك الطاقة .

1.السحب والغربلة الأولية

تبدأ العملية بسحب مياه البحر عبر (مضخّاتٍ قوية) تصمّم لتحمّل الأملاح والتآكل ، وبمجرد دخول المياه إلى المحطة ، تمر على (شاشات معدنية) ذات فتحات واسعة نسبيّاً لمنع مرور الأجسام الكبيرة والأسماك والكائنات البحرية

2.المعالجة الكيميائية والطفو الهوائي:

بعد الغربلة تُحقن المياه بمواد كيميائية تُسمّى )مخثّرات (Coagulants تجعل الجزيئات الدقيقة والطحالب تلتصق ببعضها ، ثم تُضخّ فقاعات هواء صغيرة عبر المياه ، فترتفع تلك الكتل الملتصقة إلى السطح ، ليتولّى )الـقاشِط (Skimmer جمعها وإزالتها .

3.الترشيح الرملي متعدد الطبقات:

تمر المياه بعد ذلك على (مرشّحات من الرمل والحصى) مرتّبة بطبقات ذات أحجام حبيبية مختلفة ، والهدف هنا هو إزالة الجزيئات المتوسطة والدقيقة المتبقية بعد مرحلة الطفو .

4.الترشيح الدقيق (Microfiltration & Ultrafiltration):

تُستخدم فلاتر دقيقة جداً لإزالة أصغر الجزيئات والفيروسات والبكتيريا ، هذه المرحلة أساسية لأنها تُهيّئ المياه للمرحلة الأهم ( التناضح العكسي).

5.تقنية التناضح العكسي (Reverse Osmosis – RO):

وهي جوهر عملية التحلية الحديثة ، يُضخّ الماء بقوةٍ عالية عبر أغشية شبه نفاذة ، تسمح بمرور (جزيئات الماء فقط) وتمنع (الأملاح والأيونات الثقيلة)

عادةً كل (2  لتر) من مياه البحر ينتجان (1 لتر من الماء العذب) بينما يُعاد المحلول الملحي المركز (Brine) إلى البحر بشروط بيئية صارمة .

6.إعادة التمعدن والتعقيم:

بعد خروج الماء العذب من وحدات ( RO) يكون خالياً تقريباً من الأملاح ، فيُعاد تزويده بمعادن ضرورية مثل (الكالسيوم والمغنيسيوم) لضمان صحة المستهلك وجودة الطعم ، ثم يخضع لعملية تعقيم بالكلور أو الأشعة فوق البنفسجية .

7.الطريقة البديلة: التقطير (Distillation):

في هذه الطريقة تُسخّن مياه البحر داخل أنابيب معدنية إلى درجة الغليان ، ويتحوّل الماء إلى (بخار) منفصل عن الأملاح ، بعد ذلك يمر البخار عبر مكثّفات باردة فيتحول إلى ماء نقي ،

تُستخدم طريقة التقطير غالباً في الدول النفطية الغنية بالطاقة لأنها تستهلك حرارة عالية أو من خلال استخدام تقنية (الطاقة الشمسية الحرارية المركزة Concentrated Solar Power – CSP) التي تم شرحها مفصلاً سابقاً والتي تعد من أفضل تقنيات الطاقة الممكن استخدامها في العراق وفي البصرة على وجه الخصوص ، والتي تنتج (كهرباء نظيفة + مياه عذبة + ملح).

ثانياً: تكلفة إنتاج اللتر الواحد من مياه البحر المحلاة:

  تختلف التكلفة حسب التقنية ، وسعر الطاقة ، ونظام الصيانة ، إلا أن متوسط التكلفة عالميّاً هو :

من (0.0005 إلى 0.001 دولار لكل لتر) أي ما يعادل :  (0.5 – 1  دولار لكل متر مكعب) من المياه المُحلاة   وفي دول الخليج (البحرين، السعودية، الإمارات) تتراوح التكلفة بين (0.4 – 0.8 دولار/م³) بفضل الطاقة الرخيصة والاقتصاديات الضخمة للمشاريع .

ثالثاً: تكلفة إنشاء محطة بطاقة مليون متر مكعب/ساعة:

إن إنتاج 1,000,000م³/ساعة يعني إنتاج (24 مليون متر مكعب يومياً) وهو حجم ضخم يجعل المشروع من أضخم مشاريع المياه في العالم .

التكلفة التقديرية للبناء: بناءً على مشاريع مشابهة في الخليج  تتراوح تكلفة بناء محطة كبيرة بين (800 – 1500  دولار لكل متر مكعب/اليوم) من الطاقة التصميمية وعليه: فإن (24,000,000 م³/يوم × 1000 دولار (متوسط) = 24  مليار دولار تقريباً لإنشاء محطة بهذه الضخامة . وهي تكلفة منطقية لمشروع يُعدّ إستراتيجياً ويفتح مجال 50 سنة من الأمن المائي للمنطقة

تكلفة التشغيل السنوية : إذا كانت تكلفة التشغيل نحو( 0.6 دولار/م³) فإن 24 مليون م³/يوم × 0.6 × 365 =  5.25 مليار دولار سنوياً.

رابعاً: الجدوى الاقتصادية لإنشاء محطة تحلية في البصرة:

تتميز البصرة بعدة عوامل تجعل مشروع التحلية ضخم القدرة مجدياً اقتصادياً واستراتيجياً : القرب من شط العرب والخليج: فإن هذا يقلل من تكلفة خطوط السحب البحرية. و تكلفة الصيانة. و الحاجة لضخ المياه لمسافات طويلة.

التدهور الحاد في مصادر المياه العذبة: يعاني شط العرب من ارتفاع الملوحة إلى مستويات تتجاوز (10,000 – 20,000  جزء بالمليون) في ذروة الصيف و انخفاض الإطلاقات من دجلة والفرات و التلوث الصناعي والنفطي مما يجعل الاعتماد على التحلية حلاً واقعياً وليس خياراً ثانوياً .

النمو السكاني والصناعي: محافظة البصرة تضم أهم منشآت النفط في العراق و موانئ البلاد الرئيسية  ونموّاً سكانياً مستمرّاً وصل الى أكثر من (2,44%). وتوسعاً عمرانياً وصناعياً متسارعاً. ما يجعل الحاجة اليومية للمياه تتجاوز (2–3  ملايين م³).

توفير آلاف فرص العمل: مثل هذه المشاريع تحتاج الى  مهندسين، فنيين، عمال، خبراء تشغيل وصيانة وشركات محلية للنقل والمقاولات.

دعم التنمية الصناعية: توفّر المياه المحلاة دعماً مباشراً لـلصناعات البتروكيمياوية، مصانع الحديد والصلب، محطات الكهرباء ومشاريع الزراعة الحديثة (البيوت المحمية والزراعة المائية).

حماية الأمن المائي على المدى الطويل:إن إنشاء محطة عملاقة يعالج مشكلة المياه لعقود مقبلة ، ويقلل الاعتماد على دول الجوار وعلى التقلّبات السياسية والهيدرولوجية .

خامساً: الخلاصة:

إن تحلية مياه البحر أصبحت اليوم (ضرورة وطنية) وليست مشروعاً ترفيهياً ، خاصةً في محافظة البصرة التي تواجه واحدة من أسوأ أزمات المياه في الشرق الأوسط ، ومع أن تكلفة إنشاء محطة بطاقة (مليون متر مكعب/ساعة) كبيرة ، إلا أن (عوائدها الاستراتيجية) على الأمن المائي ، والاستثمار ، والصناعة ، والصحة العامة ، تجعلها مشروعاً يستحق الدراسة والتنفيذ .

إن الاستثمار في الماء هو الاستثمار في (الحياة والتنمية والاستقرار) والبصرة تمتلك الموقع المثالي لاحتضان هذا المشروع التاريخي الذي يمكن أن يغيّر مستقبل المحافظة والعراق بأكمله .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *