عدوى “الخرونة”.. حين يُورّث الجفاء بالتصرف لا بالدم

عدوى "الخرونة".. حين يُورّث الجفاء بالتصرف لا بالدم
تحكي القصة أن "الخرونة" ليست طبعًا موروثًا بل عدوى سلوكية تنتقل بالأفعال، فالبخل والجفاء يُعدي. يدعو النص للتمسك بالقيم النبيلة، وعدم مجاراة السيئين، حفاظًا على الكرم والأخلاق الأصيلة في المجتمع...

في إحدى الحكايات القديمة التي كانت الجدات يروينها على ضوء الفوانيس في ليالي الشتاء، يُروى أن رجلين اختلفا حول صفةٍ قبلية عراقية تُعرف باسم “الخرونة”، وهي صفة تُطلق على من خلا من الجود والكرم، ليس في المال فقط، بل في الخُلق والتصرف والنية.

تساءل الرجلان: هل “الخرونة” طبعٌ موروث عن الآباء والأجداد؟ أم هي عادة مكتسبة تنتقل بالاحتكاك وتُعدي من جاورها؟ وبعد جدالٍ طويل قرّرا أن يحتكما إلى “فريضة” مشهود له بالحكمة، يفصل بينهما في القول.

انطلقا في رحلة شاقة تستغرق يومين، على طريقٍ يوازي النهر تحسّبًا للعطش والجوع، حتى إذا مالت الشمس نحو الغروب، شاهدا دارين متجاورتين على ضفة الماء. طرقا باب الأولى، فلم يُجب أحد، بينما ناداهما صوتٌ من الدار الثانية يدعوهما بالدخول مرحبًا بهما. دخلا، فاغتسلا وتناولا الطعام وشربا الماء، ثم سألهما صاحب الدار عن وجهتهما، فقصّا عليه سبب سفرهما. ابتسم الرجل وقال لهما: “سأروي لكما حكاية الدار التي لم تُفتح لكما، ففيها جواب سؤالكما.”

بدأ الراوي حديثه قائلاً: كنت أعيش هنا وحيدًا مع عائلتي وقطيعي من الغنم والجمال، في هذه البرية البعيدة، أقدّم المأوى والطعام لكل من تقطعت به السبل. رزقني الله بالمال والعيال، وكنت أرى في خدمة الناس عبادة. حتى جاء يومٌ طلب مني رجل أن يعيش بقربي، فرحبت به، وعاد مع عائلته وبنى الدار التي طرقتموها قبل قليل.

عند قدومه، أرسلت زوجتي إليهم مائدة طعامٍ عامرة باللحم والخبز والتمر ترحيبًا بهم، فشكرونا وأكرمونا بالدعاء. في أحد الأيام خرجت للصيد، فوفّقني الله ببطّتين، أعطيت واحدة لزوجتي وقلت لها: أرسلي الأخرى إلى جارنا الجديد، فهكذا جرت العادة بين الجيران. وفي اليوم التالي رأيت جاري يعود من النهر حاملاً سلةً من السمك، فلما جاء وقت العشاء وجدت على المائدة طاسة لبنٍ وخبزًا فقط، فسألت زوجتي: “أين السمك؟ ألم يرسل لنا جيراننا شيئًا؟” فقالت: “لم يرسلوا شيئًا.”

لم أهتم بالأمر كثيرًا، حتى تكرر المشهد مرةً أخرى، إذ خرجت للصيد فاصطدت سمكتين كبيرتين، فأرسلت له واحدة وأبقيت الأخرى لأهل بيتي، وبعدها رأيته يعود وقد اصطاد طيورًا كثيرة، لكنه لم يرسل لي منها شيئًا. هنا، بدأ في نفسي ضيق، فقررت أني لن أرسل له شيئًا بعد اليوم.

وذات يوم، ذبحت خروفًا لإطعام ضيوفٍ انقطعت بهم السبل، ولم أرسل جزءًا منه إلى جاري الجاحد. وفي الليل، فزعت من نومي نادمًا، وقلت في نفسي: كيف لك يا رجل، وأنت الذي عُرفت بالكرم، أن تتصرّف كما تصرّف من وصفتَه بالبخل؟ لقد أصابتني عدوى “الخرونة”!

سكت الرجل قليلًا، ثم تابع حديثه قائلاً: “يا صاحبيّ، إن البخل والخرونة ليستا طبعًا موروثًا، بل عدوى تنتقل بالأفعال. حين يجحدك غيرك فتجحد، وحين يُقصّرك الناس فتقصر، حينها تكون قد تشبّهت بهم دون أن تشعر. لذلك، إن رأيت في الناس بخلاً أو قسوة، فلا تكن مثلهم، لأنك بذلك تمنحهم القدرة على تغييرك.”

حين أنهى الرجل قصته، نظر المتجادلان إلى بعضهما وقالا بصوتٍ واحد: “لا حاجة لنا بالفريضة بعد اليوم، فقد حكمت القصة بالعدل والعبرة.”

الربط بالحاضر: ما أشبه حالنا اليوم بتلك القصة. جزءٌ من شعبنا، في السياسة كما في الشارع، يُصاب بعدوى “الخرونة” في الموقف والكلمة؛ فترى بعضهم يهاجم بلا وعي، يسب ويقذف ويُسقِط الآخرين ظنًّا أنه ينتصر لفكرٍ أو حزبٍ أو مذهب. بينما الكارثة أن من يرد عليه بذات الطريقة يصبح مثله، وينتقل إليه ذات الداء.

خلاصة القول:

احذر أن تُصاب بعدوى الخرونة في الأخلاق، كما تُصاب العدوى في الجسد. لا تجارِ من يهاجمك بالبذاءة، ولا ترد الجفاء بالجفاء. ابقَ كما أنت، نقيًّا بطبعك، كريمًا بتصرفك، صادقًا بخلقك، فبهذا وحده تُشفى البلاد من أمراضها، وتبقى القيم العراقية الأصيلة — قيم النخوة والكرم والإيثار — حيّة فينا لا تموت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *