عقلية المكوّن

عقلية المكوّن
يُحلّل النص مفهوم «عقلية المكوّن» بوصفه سبباً لأزمة الدولة بعد 2003، ويدعو إلى تجاوزها نحو عقلية المواطنة وبناء دولة حيادية تعتمد الكفاءة وتُحوّل الديمقراطية من تمثيل الهويات إلى تنافس البرامج الوطنية....

في واحدة من تصريحاته الصريحة لرئيس مجلس النواب العراقي محمود المشهداني مع الاعلامية منى سامي، وقد تعودنا على تصريحاته الصريحة جدا حيث يضع النقاط على الحروف، قال المشهداني: “ان عقليتي عقلية مكوّن”.

إن قول المشهداني بأن «عقليتي عقلية مكوّن» ليس مجرد جملة عابرة في سياق سياسي متوتر، بل هو تعبير مكثف عن بنية الوعي السياسي الذي حكم العراق بعد 2003، والذي ينهض على فكرة «المكوّن» باعتباره وحدة الفعل السياسي، لا «المواطن» ولا «الدولة». هذه الجملة تكشف عن منطق يرى المجتمع كفسيفساء متجاورة لا كنسيج واحد، ويعيد إنتاج السياسة بوصفها مفاوضات بين حصص وانتماءات وهويات لا بين برامج ومشاريع وطنية. هنا تكمن الإشكالية العميقة التي كان لها أثر بالغ على مسار الديمقراطية، وعلى طبيعة الدولة، وعلى آفاق تحديث النظام السياسي العراقي.

إن «عقلية المكوّن» هي امتداد لمرحلة تشكّلت فيها الهوية السياسية على أساس الانتماء الأولي (الطائفة، العِرق، المذهب، العشيرة)، وجرى إضفاء الشرعية على هذا الانتماء بوصفه مصدر الحقوق السياسية وشرط الوصول إلى السلطة. وبهذا، تحوّلت الديمقراطية من آلية لإنتاج حكم وطني قائم على المواطنة إلى آلية لتوزيع السلطة بين المكونات، أي إلى «ديمقراطية حصص» لا «ديمقراطية مواطنين». وعندما يصبح الانتماء إلى المكوّن شرطاً للتأثير السياسي، فإنّ قيمة الفرد وقدرته وكفاءته وبرنامجه تصبح عناصر ثانوية أو مُهمّشة، بينما يُعاد تعريف الدولة من كونها جهازًا عامًا محايدًا إلى كونها ساحة صراع للسيطرة على الموارد لصالح هذا المكوّن أو ذاك.

هذا النمط من التفكير يخلخل أسس المواطنة ويمنع الدولة من التشكل بما هي «إطار جامع»؛ إذ يشعر الفرد بأنّه يُمثّل ويُصان بقدر قربه من جماعته، لا بقدر انتمائه للدولة. هنا يتحول المواطن إلى «تابع مكوّناتي»، وتتحول الديمقراطية إلى «مساومات فئوية»، ويتراجع مفهوم المسؤولية العامة، ويتسع نطاق الفساد باعتباره جزءًا من آليات التوزيع المكوّناتي للثروة والفرص والمناصب. وهكذا، تُصاب الدولة بالهزال: تتعدد السلطات داخلها، وتتوزع الولاءات على خطوط الانتماءات الفرعية، ويتراجع حضور «الكل الوطني» أمام «الأجزاء المتنازعة».

إنّ الخروج من هذه الحلقة لا يتحقق عبر إلغاء المكونات أو إنكارها، فالمجتمع العراقي متنوع، والتنوع مصدر ثراء. إنما يتحقق عبر تحويل معنى المكوّن من وحدة صراع إلى وحدة مشاركة، ومن إطار انقسام إلى إطار تنوّع داخل دولة واحدة. وهذا يستلزم إعادة تأسيس الوعي السياسي على قاعدة المواطنة بوصفها العقد الناظم، وعلى قاعدة العدالة بوصفها الأساس الأخلاقي، وعلى قاعدة الدولة بوصفها المرجع الأسمى الذي يعلو على الجميع ولا يُدار بمنطق الغنيمة بل بمنطق الخدمة العامة.

ولأجل ذلك، تبرز ثلاث مهام حضارية كبرى:

بناء ثقافة وطنية جامعة:
إعادة تعريف الذات الجمعية للعراقيين بوصفهم «شركاء في وطن واحد»، لا «مجموع مكونات تخشى بعضها»، وذلك عبر الخطاب الثقافي، والتعليم الحضاري القيمي، وتجديد الوعي الديني بما يُعلي الكرامة الإنسانية الجامعة على الهويّات الضيقة.

إعادة بناء مؤسسات الدولة على أساس الحياد والكفاءة:
الدولة يجب أن تكون فوق المكوّن وليس امتدادًا له. وهذا يتطلب إصلاحًا إداريًا، وإعادة تعريف معايير التعيين والتمثيل، وتحرير المؤسسات من المحاصصة، وتمكين القضاء والإدارة من العمل باستقلال وفاعلية.

تحويل العملية الديمقراطية من تمثيل الهويات إلى تنافس البرامج:
لا تتحول الديمقراطية إلى ممارسة حقيقية إلا عندما يصوت المواطن على أساس برنامج وسياسة ورؤية، لا على أساس انتماء مكوّناتي. وهو ما يستلزم نظامًا انتخابيًا يعزز التنافس الوطني لا الفئوي.

إنّ ما نحتاجه ليس إلغاء المكوّن، بل تجاوز المكوّن نحو الدولة، ولا إلغاء الهوية، بل تحويل الهوية إلى جزء من كل أكبر، ولا إلغاء التنوع، بل جعله جزءًا من انسجام حضاري أوسع، تتجلى فيه قيم الدولة الحضارية الحديثة: الحرية، العدالة، المساواة، المسؤولية، الإتقان، التضامن، التعاون، الإيثار، التسامح، الثقة، السلام، والإبداع.

إنّ الديمقراطية لا تُبنى بعقلية المكوّن، بل تُبنى بعقلية الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *