منطقة غرب آسيا لم تكن يوماً فضاءً جغرافياً عابراً، بل هي قلب العالم النابض بالثروات ومسالك التجارة. هنا يمرّ النفط والغاز، وهنا تتقاطع طرق التجارة القديمة والحديثة، ومن هنا تتحدد معادلات القوة بين الشرق والغرب. لهذا السبب لم تتوانَ الولايات المتحدة عن فرض حضورها العسكري والسياسي في أغلب بلدان المنطقة، مرةً تحت لافتة “الحماية” ومرةً أخرى بذرائع “التحالفات الدولية”، فيما الهدف واحد: تثبيت هيمنة تتيح لها التحكم بمصادر الطاقة وممرات الملاحة، وتكبيل القرار السياسي للدول.
لكن الصورة لم تكتمل كما أرادتها واشنطن وحلفاؤها. ففي مقابل جيوش مدججة بالعدة، وجيوش أخرى محالة إلى التقاعد المبكّر تكتفي بالاستعراض في ساحات الاحتفال، يطلّ اليمن بمشهدٍ مختلف، ليعلن أن هناك إرادةً لا تُشترى ولا تُباع. إنّه تمرّد على الصورة النمطية التي رسمتها الماكنة الإعلامية الغربية.
اليمنيون – بما عُرفوا به من إيمانٍ وحكمة – اختاروا أن ينظروا إلى المعركة من زاوية أخرى. فالمبدأ الشرعي، والضمير الإنساني، والواجب الأخلاقي، هي البوصلة في تحديد الموقف، حتى وإن كان الثمن تجويعاً أو حصاراً أو سقوط شهداء على مذبح القضية. أما السياسة البراغماتية التي تُحاكم المواقف بمعايير الربح والخسارة اللحظية، فإنها قد ترى في ما يفعله اليمنيون ضرباً من الانتحار السياسي. غير أن ثمة فرقاً بين من يساوم ليكسب امتيازاً عابراً، ومن يقدّم حياته ليكسب تاريخاً، وكأنّ قول الشاعر يصلح لوصف حالهم: تَبيعُ نَفسَكَ في كَسبِ النَفيسِ بِها ** إِنَّ الخَطيرَ لَمِقدامٌ عَلى الخَطَرِ.
باب المندب وحده يكفي أن يجعل من اليمن رقماً صعباً في معادلة المنطقة. هذا الممر البحري الحيوي، الذي يربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي، يعني أن القرار اليمني – مهما حاول الآخرون مصادرته – سيبقى مؤثراً في أمن الطاقة والتجارة الدولية. ولأن الغرب يدرك هذه الحقيقة، لم يترك وسيلة إلا وجرّبها: حرب شاملة منذ 2015، حصار اقتصادي، استهداف البنى التحتية. ومع ذلك لم تنكسر الإرادة اليمنية، بل صارت حجّةً على من اكتفى بالصمت أو اختبأ خلف سياسة “النأي بالنفس”.
الثمن الذي يدفعه اليمن باهظ، لكن الفارق أن هذا الشعب يراه ثمناً لموقف، لا خسارةً عابرة. أن تجوع ولا تخضع، أن تُرمى بالرجعية ولا تُساق كالقطيع إلى مشاريع الغرب، أن تقدّم أبناءك شهداء ولا تبيع قضيتك، كل ذلك في نظر أرباب العقيدة فوزٌ عظيم. وربما لهذا صار اليمن شاهداً على مفارقة تاريخية: دول غنية بمواردها لكنها فقيرة في قرارها، مقابل بلدٍ مُثقل بالجراح لكنه غنيّ بكرامته ومبدئيته.
من هنا يصبح اليمن حجّةً بالغة على كل من تذرّع بالعجز أو توارى خلف المصالح الضيقة. حجّة على الأنظمة التي فضّلت البقاء في ظل الهيمنة بدل أن تُكافح من أجل الاستقلال. حجّة على من اعتبر فلسطين قضية خاسرة، فيما يقدّم اليمنيون حكومتهم برئيسها (الرهوي) وأبناءهم قرابين في طريقها. حجّة على عالمٍ يتحدّث كثيراً عن القيم، لكنه يلوذ بالصمت حين تُنتهك أرضٌ وتُستباح سيادة.
وهكذا.. يظلّ اليمن، برغم ضعف الإمكانات جمجمة غرب آسيا، فهو أقوى من أن يُختزل في صورة “بلد منكوب”. إنّه شاهد على أن الإرادة حين تقترن بالمبدأ تتحوّل إلى قوة تتجاوز حدود السلاح، وأن الصوت الخارج من صعدة أو تعز أو الحُدَيْدَة، يمكن أن يوقظَ ما تبقّى في الضمائر، فهل بعدَ اليمن من عُذرٍ لمعتَذِرٍ؟
 
															 
								 
															


 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								