لم يكن مفهوم الوحدة الإسلامية يوماً ترفاً فكرياً أو شعاراً عابراً في فضاء الوعظ، بل ظلّ ركناً أصيلاً في بنية الوعي الإسلامي. وتزداد الحاجة إليه في زمننا هذا، حيث تعصف بالأمة أحداث دامية خلّفت جراحاً غائرة، وأيقظت نزاعات طائفية عمّقت الشرخ بين أبناء الدين الواحد. وما زاد المأساة اتساعاً، دخول تيارات متطرفة تصنع خطاب الكراهية، وتستثمر في إثارة النعرات بدعم جهات كبرى لا ترى مصلحتها إلا في بقاء الأمة ممزقة، كلٌّ يدّعي أنه الفرقة الناجية.
هذا الواقع يشي وكأنّ رأب الصدع أقرب إلى المستحيل؛ فحروب طائفية أنهكت حواضرنا، ودعم خارجي يغذّي جماعات التشدد، وإعلام يسكب الزيت على النار، كل ذلك ترك في النفوس أثراً بالغاً. ورحم الله عميد المنبر الحسيني الشيخ أحمد الوائلي حين قال: عُدنا تُصنِّفُنا يَدٌ مسمومةٌ ** مُتَسَنِّنٌ هذا وذا مُتَشَيِّعُ
لكن صوت الحكمة لم يخفت؛ فما زالت هناك أصوات تدعو إلى المشتركات، وإلى الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، علّها تبعث الأمل في إمكانية تحويل الوحدة الإسلامية من شعار إلى ممارسة، ومن تنظير إلى واقع.
غير أن ثمة التباساً في مفهوم الوحدة عند بعضهم؛ إذ يظن أنها تعني ذوبان المذاهب في بوتقة واحدة، والتخلي عن الثوابت العقدية إرضاءً للآخر. والحقيقة أن الوحدة لا تُلغي الاختلاف ولا تفرض تنازلاً عن المعتقد، بل تقوم على استثمار المساحات المشتركة، وإحالة موارد الخلاف إلى أهل العلم والحوار الرصين، على قاعدة: “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب”. ويكفي أن نتذكّر المراسلات الراقية بين شيخ الأزهر الشريف سليم البشري والعلامة السيد عبد الحسين شرف الدين، والتي جُمعت لاحقاً في كتاب المراجعات، لتكون شاهداً على أن الحوار العلمي الرصين قادر على مدّ الجسور بين المختلفين.
إن وحدة المسلمين لن تتحقق عبر التنظير وحده، بل بعمل مؤسسي منظم تشارك فيه الحوزات العلمية، والجامعات، ووسائل الإعلام، والنخب الفكرية. هذه المؤسسات تتحمل مسؤولية كبرى في مواجهة المدّ المتطرف الذي ينخر الجسد الإسلامي، ويعيد شبح المواجهة بين أبناء الأمة.
فالوحدة الإسلامية ليست حلماً طوباوياً، بل ضرورة وجودية تحفظ الدماء وتصون الأعراض وتمنع استنزاف الطاقات. أما الاستقطاب الطائفي فهو فرس رهان آخر، يراهن عليه أعداء الأمة لتبديد قوتها وصرفها عن قضاياها الكبرى. وبين هذين الرهانين تقف الأمة اليوم: إمّا أن تنتصر للوحدة، أو تُساق إلى مزيد من التشظي.
فهل نختار أن نكون أمةً موحّدة تواجه تحدياتها بصفّ واحد، أم نبقى أسرى الاستقطاب المقيت؟
 
															 
								 
															


 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								