المكوّن الشيعي ليس مجرّد كتلة سكانية أو طيفاً مذهبياً في العالم الإسلامي، بل هو ظاهرة ممتدّة في الزمن، وجغرافيا واسعة من المعاناة والمقاومة والفكر. هذا الصفّ بما يحمله من ذاكرة الدم والولاء، وبما راكمه من تجارب ثورية وفكرية، يشكّل اليوم إحدى أكثر الظواهر قدرةً على الاستمرار رغم ما يحيط به من عواصف، وما يُدبَّر له من مشاريع تفكيك وتمويه.
وعناصر القوة التي يستند إليها الشيعة عبر التاريخ تتوزّع على ثلاثية تكاد تكون نادرة المثال: المرجعية الدينية في قمة الهرم، والحوزة العلمية وما يتفرّع عنها من نخب وقيادات وسطى، ثم القواعد الشعبية التي تمثّل الخزان البشري والحاضنة المجتمعية. هذه الثلاثية المتكاملة ـ المرجعية، الحوزة، الجماهير ـ تمثل في مجموعها العمود الفقري لقوة الشيعة، وضمانة تماسكهم، ومصدر مناعتهم الذاتية أمام محاولات الإضعاف والاختراق.
الشيعي، بحكم تكوينه العقدي، يحمل فكرة الممانعة في داخله؛ فهي ليست شعاراً طارئاً أو نزعة احتجاج عابرة، بل امتداد لخطّ ممتدّ من كربلاء إلى يومنا هذا. فكرة رفض الظلم، والتصدّي للطغيان، والإصرار على العدالة، ليست مجرد مبادئ سياسية، بل ميراث متجذّر في العمق المذهبي، تجسّد في مواقف الأئمة المعصومين (ع) الذين رسموا بدمائهم وخطاباتهم خارطة رفض الاستسلام. ومن هذا العمق تنبثق المرجعية لتكون الناظم المركزي، لا لمعادلات السياسة فحسب، بل لروح الجماعة وهويتها الجامعة. فهي بوصلة الاتجاه في السلم والحرب، ومركز التوازن بين النص الديني ومتطلبات الواقع، ودرع الحماية حين يتصاعد منسوب المخاطر.
وإلى جانب المرجعية، تنهض الحوزة العلمية كمنظومة معرفية وفكرية رصينة، تنتج العلماء، وتصوغ الوعي، وتربط القيادة بالقواعد الشعبية. هي بمثابة القلب النابض الذي يضخّ الدم في شرايين الجماعة، فلا ينقطع خيط الوصل بين القمة والقاعدة. وإلى جانب المرجعية والحوزة، تقف النخب والكفاءات المنتمية لهذا الصف، في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة، لتشكّل سنداً إضافياً يعكس تنوّع أدوات القوة داخل المكوّن.
أما القواعد الشعبية، فهي الحلقة الثالثة والأكثر اتساعاً في هذا البناء. فهي ليست مجرّد جمهور سلبي، بل قاعدة صلبة، أشبه بما تمثّله الثروات الطبيعية في الاقتصاد، من نفط وغاز ومياه. هذه القواعد، على اتساعها، أظهرت مراراً انسجاماً منقطع النظير مع خط المرجعية وتوجّهات الحوزة، كما تجلّى في الاستجابة المليونية لفتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها المرجع الأعلى لمواجهة خطر الإرهاب في العراق. هذه الحادثة لم تكن استجابة ظرفية، بل كشفت عن طبيعة العلاقة العميقة بين القيادة والجمهور، وعن دينامية الانصهار بين الإرادة الدينية العليا والمزاج الشعبي العام.
غير أنّ هذه القوة الثلاثية لم تُترك لتعمل بحرّيتها. فالمرجعية طالها الافتراء، والحوزة وُصِفت بالعزلة، والجمهور أُنهِك بحملات التشويه والتضليل. الخصوم يدركون أنّ ضرب الرأس عسير، وأن تقويض الحوزة يحتاج زمناً طويلاً، لذلك ركّزوا سهامهم على الحلقة الأضعف: القواعد الشعبية. ومن هنا جاء الاستهداف الإعلامي الممنهج: تصوير الشيعة كجماعة مأزومة، تضخيم حالات فردية من الانتحار أو الجرائم لتبدو كأنها الصورة العامة، إبراز الأخطاء السياسية كأنها سِمة ملازمة، وتغذية الخلافات الداخلية عبر شعارات وطنية أو قومية أو مناطقية، لإيهام الداخل أن خلافه السياسي هو في جوهره انقسام هوياتي.
لكن وراء هذا كله “عقل منظّم” لا يَخفى. ليست العفوية هي ما يصوغ المشهد، بل شبكات مصالح وأجندات إقليمية ودولية، رأت في الشيعة حاجزاً صلباً أمام مشاريع التقسيم والتطبيع، فقرّرت النيل منهم عبر البوابة الأخطر: تفكيك ثقة الجمهور بنفسه وبقيادته.
التحدّي الأكبر اليوم، إذن، ليس في مواجهة الخارج فحسب، بل في تحصين الداخل: ترشيد الخلافات السياسية، تقوية حضور النخب الواعية، تعزيز الوعي الجمعي وسط القواعد الشعبية. إنّ التاريخ يعلّمنا أنّ هذا الصف كلما حوصر أو استُهدِف، استعاد وحدته الداخلية وانصهر في بوتقة واحدة؛ من ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني، إلى مواجهة الدكتاتوريات، وصولاً إلى حربه مع الجماعات التكفيرية.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل سيبقى الوعي الجمعي الشيعي قادراً على فرز الأصوات، والتمييز بين صوت الداخل الأصيل ونداءات الخارج المموّهة؟ أم أنّ حملات التشويه والضغط ستفلح في إحداث الشرخ الذي طالما سعت إليه القوى المناوئة؟
 
															 
								 
															


 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								 
								