Search
Close this search box.

سيمياء الرفض في شاهدة قبر يحيى السماوي

سيمياء الرفض في شاهدة قبر يحيى السماوي
لم يكُن الشاعرُ المُؤرّق بحبِّ الوطن والنّاس والأم والطبيعة، أولَ شاعرٍ استنطق الأشياء والحواس وكلِّ شيء من حوله.....

لاشك أنَّ اسلوب الرفض، يتعلقُ بالغريزة الانسانية التي ترفضُ أيَّ اسلوب أو سلوك أو عملٍ ينتقصُ مِن كرامتِها وحريتِها وعيشها بسلام أو آمان ؛ فترفض الآخر المتعالي بشتى الوسائل والطرائق المُمكنة. وهذا الاسلوب أُتّبَعه كثيرٌ من الأنبياء والأوصياء والأولياء الصالحين والمصلحين، الذين رفضوا الوثنية أو الخرافة أو العادات والتقاليد القبلية العصبية الفاسدة أو البالية ؛ ايماننا منهم في التغيير وسلخ المجتمعات التي تنظر الى الآخر بغريزة الاستعلاء والانتقام والانتقاص، من هذه الغريزة الغيرية النرجسية الانوية.

ومن هذا المنطلق الأبستمولوجي انطلق كثيرٌ من الشعراء والادباء في العالم لمقاومة السياسات الظالمة للحكّام أو المجتمعات الجاهِلة، وعرّضوا انفسهم للقتل أو الاعتقال أو النفي أو الاقصاء أو الحوادث المأساوية؛ ثمننا للكلمة الحُرّة الرّافضة للظلم والاقصاء والكبت والحرمان والابعاد.. فالرفض هو غريزة إلحاحية تناقض وتقاوم وترفض الكبت، والسكوت، والسكون، والقبول بالمذلة والحرمان والاقصاء، ضمن صراع الأنا والآخر الغيري، بعد أن تُقيم عليه الحِجج الدامغة لرفضه ومقاومته.

وشاعرُنا الكبير يحيى عباس الحسناوي السماوي العراقي ولد (1949)/في محافظة السماوة، هو مِمَن عشقَ واختار طريقَ الشهادة على عصر الزُّور والظّلم والفُجور والاقصاء والديكتاتورية، ورفضه بكلِّ ما أُوتي مِن قوّة، بدلا مِن أن يغلق عينيه وينام بائعا لضميره ووطنه، كمَن أغوتهم المناصبُ والمنابرُ والامنياتُ والطُّموحات، فهو صورةٌ للديمقراطية او الليبرالية المُحدَثة والمطوّرة التي تناقض وتنافي صورة الديكتاتورية التقليدية البائدة المُظلَلة والضالة، لذلك سيكون عنوانُ بحثنا هذا هو ” تجليات الرفض في شاهدة قبر يحيى السَّماوي، دراسة سيميائية حجاجية تواصلية ” لِما إنمازت به مجموعته الشعرية هذه، من تعدد وتنوع لأساليب الرفض فيها.

لا شكَّ أن لكلِّ فعلٍ ردّةَ فِعل معاكسة لها في الاتجاه ومساوية او مجاوزة لها في المقدار احيانا كثيرة بخاصة السلوكية والنفسية منها، وكذلك الحال بالنسبة لأسلوب الرفض فهو ردُّة فعلٍ ذاتيةٍ فرديةٍ أو جماعيةٍ، تُعبّرُ عن حالة عدمِ رِضا واستقرار واطمئنان، وربّما تصلُ الى الفورانِ والغليانِ والعنفِ في أحيانٍ كثيرة، للتعبير عن الاستقلال والتحرر الذاتي للانا بأسلوب الرفض والاحتجاج بعد قطع التواصل مع الآخر الغيري، فهو حالة (سيكولوجية سوسيولوجية أبستمولوجية) أي حالة انفعالية عاطفية حيوية نشاطية حركية حماسية شبيهه بالاهتزاز الذي نشعر به اثناء الحب العنيف والحماسة الفياضة والمؤثرات الموسيقية العذبة او أشبه بزلزال يعصف في الاعماق سلبا او ايجابا استجابة لفعل ما،وهي احساس باطني مصدره جوارح الانسان وقلبه . وينتج هذا الانفعال تحت تأثير العقل عن فكرة ذهنية او صورة رمزية تشترك فيها جميعُ اعضاء الجسم بتفاعل وتعاضد وتماهي حجاجي تواصلي، وتتفاعل مع العوامل البيئية / البيولوجية و الفسلجية والوراثية للإنسان، فتؤثر على سلوكه بفعل قولي أو انجازي فعلي، تصاحب أو تتولد في الذات / الأنا المستثار، فيستجيب لها الكائن سواء كان انسانا أو حيوانا، فتحدث تغيراً مفاجئاً وانقلابا جذريا، واستجابة شاملة لنداء الأنا الصارخ الصادح الرافض للظلم ضد الاخر الغيري المتعالي المُقصِي. فتكون تجلياتها على أرض الواقع، إما بصورة قولية / كلامية، أو فعلية حدثية سلوكية .وقد تكون إلحاحية عنيفة في كثير من الاحيان؛ كونَّها تجد في الظلم والكبت والاقصاء والتعسف انتقاصا لها كوجود يرفض العدم، أو لكبت حريتها أو اعاقة عيشها أو تقليص لحجمها وحيزها المكاني أو الزماني؛ لذلك تنتفض وبشدّة ضدَّ أيّة قوة أو عدو محتمل يداهمها أو يسلب حريتها. اذت الانفعال الذي يتسبب في وجود الرفض بمختلف انواعه وتشكلاته ووسائله هو علة العقل وسبب له ومنطلقه وعنصر الفعاليات الذهنية والجسدية ومنبع هذا الانفعال هو الغريزة التي اصبحت حدسا بعد ان تخلصت من كل مقصد عملي وتنزهت عن كل عمل اناني فأصبحت واعية بذاتها وموضوعها .

– رفض العدمية، مِن خلال مفردة النَّخلة :

لم يكُن الشاعرُ المُؤرّق بحبِّ الوطن والنّاس والأم والطبيعة، أولَ شاعرٍ استنطق الأشياء والحواس وكلِّ شيء من حوله.. لكنَّه –ربّما- الشاعر الذي وضع الإصبع على الجُرح الذي يتلذذ بالمِلح ..أنه السَّماوي بأفكارِه وهواجسِه وأحاسيسه، التي ترجمها على دفتر مِن الطّين الحُرّ،وبجريد النَّخل العراقي،وخطَّها بإحساسٍ مُرهفٍ مُثقلٍ بهمومِ الوطن والنَّاس .

ببساطةِ المفردات وعفويتها، استطاع السَّماوي أن يقفز على الذات الإحساس، وهو يستنطق، ويستجوب الهواجس في دائرةِ مكتب التحقيق السري الذي عدَّه مخبرا منولوجيا يوحي له في زنازين المعتقلات؛ لنعيش معَه القصة المتعددة المشاهد وسياق الآن والهُنا وصراع الأنا والهو مع الآخر أو الأنا العليا، التي مازالت حُبلى بالكثير من المفاجآت التي لم يُفصح عنّها دفعة واحدة، وتركها تتسلل الى مخيالنا عبر زمنيته ومكانيته ورؤيته وعلائقيته الغامضة ..

وما النَّخلة إلا رمزٌ مِن رموزٍ الرَّفض الكثيرة في خطاب السَّماوي الشعري ..فالشاعر منَحَنا نسجا دلاليا توليديا حداثويا متعالقا مع تراثه الغارِق في جذور الماضي، مبتعدا عمّا اعتدنا عليه مِن أنَّ النَّخلة هي رمزٌ للعطاء والشُّموخ والكبرياء مِن هذه المصطلحات التي مللناها لكثرة التكرار؛ لذلك نجد السَّماوي قد فرَّ بنفسه نحو هذه الأنثى الأم الرمز المقاومة، التي تُوصلنا إلى الرّب من حيث بعدها الدلالي السيميائي الذي يربط لنا جذور الأرض بعنان السماء، وحنان الأم برطبها المِعطاء، رابطا إيّاها بعصافير البيت الأليفة المُمتعة، وشساعة ونضارة وخضرة، ومتاعة البستان الذي هو رمز للاحتواء والعطاء والمتعة ايضا،بوصفها امتدادا فرديا جسديا وفسلجيا لذلك الامتداد الكبير،وهي تمدُّ جذورَها الطّاهرة إلى رَحم قلبه المقدّس، حتى أنَّ ضلوعه قد شُيدت مِن سعفِها.

فالترديدُ والتكرارُ لمفردة النَّخلة في شعر السَّماوي لم يكن مصادفةً أو إغراقاً أو فناً بديعيا تقليديا، بقدر ما يكون رسالةً أو نبوءةً، بأنَّ النَّخلة هي الحبلُ الموصِل إلى الرّب فلا تقطعوها من جذورها بالنفي والهجر والغدر …فقد ذكرها بقوله: (عصافير نخلة بيتنا، بنخيلي أعمدة كونكريتيه، نخلة جذرها في قلبي، ضلوعي تساقطت نخلة نخلة، مثل نخيل بستان واحد، اليوم الذي يحتفل به نخيلنا،ولنا من النخل،ليشع قوس القزح نخلة جنب نخلة، حتى أخر نخلة في جيكور، والنخيل حليق الرؤوس،.نخلة في صحراء، انا من جريد النخل).

هكذا استحوذ النخلُ على بستان / نص الشاعر السَّماوي، وهو يصف مرّة ويشبّه في أخرى ،ويعطفُ ويستنطق ويكسي ويصوغ، وبهذا نجد إنَّ السَّماوي قد تلاعب تلاعبا فريدا بارعا في المعنى الدلالي، والتداولي، والسيميائي لهذه المفردة، فتارة يجعلها أماً وتارة اخرى، حبيبة أو وطنا أو ضلعا أو قبسا أو شمعة، ومرّة يصفها بالخِواء واليتم والجفاء، والانقراض وغير ذلك.

فقد خصَّ النَّخلة بوحدات دلالية ساهمت في بناء المستوى التركيبي، وهيكلته هيكلة متماسكة، مِن حيث الوحدات الدلالية التوليدية العميقة، التي وظَّفها في خطاب الرفض الثوري الاشهاري ..

لقد كان موفقا فيما ذهب اليه مِن دون أيّ تكلّف أو إغراق. فالشاعرُ ابنُ بيئته ومرآتها العاكسة، لذلك استحقت النَّخلةُ الرمزُ الأمُ المعطاء أن تكون مبعوثةَ الرّب في إحدى قصائده، ورمزَ الحضارة والتأريخ والتأصيل ..ورمزَ الرفض أيضا، اذ أنَّها رفضت أن تموت بأصوات المدافع او بقطعِ الماء عنها او بهجرة أصحابها عنها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *