تأتي هذه المذكرة في ضوء استقبال السيد رئيس مجلس الوزراء لوفد شركة SpaceX – Starlink وبداية مناقشة المراحل النهائية لمنح تراخيص الإنترنت الفضائي في العراق. وهي موجّهة إلى صانع القرار العراقي بوصفها ورقة سيادية متكاملة، لا تناقش الإنترنت الفضائي كخدمة تقنية فحسب، بل كبنية تحتية استراتيجية تمسّ الأمن الوطني، والسيادة المعلوماتية، والاقتصاد الرقمي، وبُنى الدولة العميقة. وتنبّه هذه المذكرة إلى حقيقة ثابتة في أسواق التكنولوجيا العالمية، وهي أن الشركات الكبرى العابرة للحدود تبادر دائماً إلى دخول الأسواق التي تفتقر إلى منظومات الحوكمة، وقوانين إدارة البيانات، والأطر العقابية الرادعة. وفي مثل هذه البيئات القانونية الهشّة، تسعى هذه الشركات إلى تثبيت وجودها بسرعة لخلق أمر واقع قبل أن تُسنّ التشريعات الوطنية. وحين تصدر هذه القوانين لاحقاً، تكون الشركة قد رسّخت نفوذها إلى درجة تجعلها أقل التزاماً بها، أو قادرة على الالتفاف عليها، بما يؤدي عملياً إلى تآكل الرقابة الحكومية وظهور بنى اتصالات تعمل فوق الدولة، لا داخلها. هذا النموذج رأته دول كثيرة حول العالم، حيث أصبح القطاع الرقمي فيها رهينة لشركات أجنبية بسبب غياب الأطر الوطنية الحاكمة لحظة دخول تلك الشركات. وانطلاقاً من هذه الحقيقة، تحذّر هذه المذكرة من أن إدخال Starlink إلى العراق دون إطار وطني ضابط، و دون إنشاء بوابة تحكم وطنية داخل البلاد، سيقود إلى نشوء شبكة اتصالات موازية فوق السيادة العراقية، تعمل خارج بوابات النفاذ القانونية، ومنظومات الأمن الوطني، وقد تمنح فاعلين خارجيين قدرة غير مسبوقة على النفاذ إلى الاتصالات والبيانات داخل العراق، بلا رقابة ولا سيطرة ولا إمكانية للضبط القانوني.
جوهر هذه المذكرة أن إدخال Starlink دون إطار وطني ضابط وبوابة تحكم عراقية يمكن أن يقود إلى نشوء شبكة اتصالات موازية فوق سيادة الدولة، تعمل من خارج بواباتها القانونية ومنظومتها الأمنية، وتمنح فاعلين خارجيين قدرة غير مسبوقة على النفاذ إلى الاتصالات والبيانات داخل العراق.
أولاً: مقدمة – من خدمة إنترنت إلى قرار سيادي عالي الحساسية
في ظاهر الأمر، يُقدَّم الإنترنت الفضائي كحل تقني سريع لربط المناطق النائية وتحسين جودة الخدمة وتخفيض الكلفة ودمج العراق في الاقتصاد الرقمي العالمي. لكن في جوهره البنيوي، نحن أمام قرار سيادي يتعلق بمن يملك مفاصل تدفق الاتصالات من العراق وإليه، ومن يملك القدرة على مراقبتها أو تعطيلها أو استغلالها في أوقات السلم والحرب.
إن شبكة Starlink على وجه الخصوص لم تعد مشروعاً تجارياً بحتاً؛ بل تحوّلت بفعل استخدامها في الحرب الأوكرانية وارتباطها بالمنظومات العسكرية الغربية إلى جزء من أدوات النفوذ الجيوسياسي والأمني للولايات المتحدة وحلفائها. ومن ثم فإن دخولها إلى العراق بلا ضوابط صارمة يعني فتح منفذ إضافي لنفوذ خارجي مباشر على البنية الاتصالية العراقية.
فكرة محورية:
الإنترنت الفضائي ليس مجرد “خدمة إنترنت سريعة”، بل قرار سيادة يحدد إن كان فضاء الاتصالات العراقي سيبقى تحت المظلّة الوطنية، أم ستنشأ فوقه مظلة أخرى لا تخضع للقانون العراقي ولا للقرار العراقي.
ثانياً: سياق اللقاء الحكومي مع Starlink وتحول العراق الرقمي
- الإطار السياسي والاقتصادي
جاء استقبال السيد رئيس مجلس الوزراء لوفد SpaceX – Starlink في سياق أوسع يتحدث عن:
- التحول الرقمي الشامل للدولة العراقية،
- جذب الاستثمارات الأجنبية في قطاع الاتصالات والتكنولوجيا،
- ربط العراق أكثر بالاقتصاد العالمي عبر شركات أمريكية وأوروبية كبرى.
هذه الأهداف في حد ذاتها مشروعة، بل وضرورية، لكن الخطر يكمن في أن لغة الاستثمار والتحول الرقمي قد تطغى على لغة السيادة والأمن القومي عند صياغة الاتفاقات والعقود إذا لم تكن هناك رؤية سيادية واضحة ومعلنة.
- ما الذي لم يُذكر في البيانات الرسمية؟
ركّزت البيانات الرسمية على مفاهيم عامة مثل “التطور”، “الاستثمار”، “الخدمات المتقدمة”، لكنها لم تتطرق – حتى لحظة إعداد هذه المذكرة – إلى عناصر تقنية–سيادية جوهرية، مثل:
- موقع البوابة الأرضية (Gateway) التي ستمر عبرها بيانات العراق،
- هل تُدار مفاتيح التشفير داخل العراق أم خارجه؟
- هل يمكن للدولة العراقية قطع الخدمة أو تقييدها في حالات الطوارئ؟
- ما وضع تخزين البيانات (Data Localization) لمستخدمي Starlink داخل العراق؟
- كيف ستُدمج الخدمة مع البنية التحتية الوطنية الحالية (شركات الاتصالات، الألياف الضوئية، بوابات الإنترنت)؟
الفجوة الرئيسية:
هناك حديث متكرر عن “فرص” و“استثمار” و“خدمة متقدمة”، في مقابل غياب شبه تام للغة الضوابط السيادية واشتراطات الأمن الوطني في التصريحات العلنية.
ثالثاً: الإنترنت الفضائي كبنية تحتية استراتيجية لا كخدمة تجارية عابرة
- كيف يعمل نموذج Starlink تقنياً؟
يقوم نموذج Starlink على شبكة واسعة من الأقمار الصناعية في مدار أرضي منخفض (LEO)، تتصل بمحطات أرضية (Gateways) موزعة في دول مختلفة، وتقدّم الخدمة للمستخدمين عبر أطباق صغيرة (User Terminals) يمكن تركيبها في أي منطقة ضمن التغطية.
مسار الاتصال يكون تقريباً على النحو الآتي:
- جهاز المستخدم (حاسوب – هاتف – شبكة داخلية)،
- يرتبط بالطبق الفضائي (Terminal)،
- يتصل الطبق بالقمر الصناعي الأقرب،
- القمر يعيد توجيه الإشارة إلى بوابة أرضية (Gateway) في دولة معيّنة،
- ثم إلى شبكة الإنترنت العالمية ومنصات الخدمات المختلفة.
- الفرق بينه وبين الإنترنت الأرضي التقليدي
في الإنترنت التقليدي، تمر غالبية الحركة الدولية من خلال:
- بوابات إنترنت دولية داخل العراق،
- كابلات ألياف ضوئية تربط هذه البوابات بكابلات بحرية دولية،
- نقاط تبادل إقليمية وعالمية.
هذه البنية – على الرغم من اختراقاتها – تبقى ضمن مجال رؤية الدولة:
- البوابات داخل الأراضي العراقية،
- شركات الاتصالات مرخّصة محلياً،
- توجد قدرة – نظرياً – على فرض القوانين والرقابة القضائية.
أما في نموذج Starlink غير المنظّم وبدون بوابة وطنية، تصبح حركة الاتصالات:
- خارجة عن بوابات الدولة،
- مباشرة من المستخدم إلى بوابة في دولة أخرى،
- وبالتالي خارج نطاق السيطرة القانونية والعملية للحكومة العراقية.
الخلاصة:
الفرق الجوهري ليس في سرعة الإنترنت أو التقنية المستعملة، بل في مكان “عنق الزجاجة” الذي تمر عبره الاتصالات ومن يسيطر عليه ويفرض قوانينه عليه.
رابعاً: غياب رؤية معلنة لنموذج عمل Starlink داخل العراق – دلالات وتفسير
- لا وثيقة واضحة، لا التزامات مكتوبة
حتى تاريخ إعداد هذه المذكرة، لا توجد وثيقة منشورة من Starlink موجهة للسوق العراقية توضّح فيها:
- نموذج العمل داخل العراق (خدمة للأفراد؟ للجهات الحكومية؟ للشركات؟)،
- مكان وجود البنى الأرضية المرتبطة بالخدمة،
- سياسة تخزين ومعالجة بيانات المستخدمين العراقيين،
- آليات الامتثال لأية قوانين عراقية في مجالات الأمن السيبراني وحماية البيانات.
- مغزى غياب الشفافية المسبقة
هذا الغياب ليس تفصيلاً ثانوياً، بل مؤشر على نمط معروف في سلوك عدد من الشركات العابرة للحدود: الدخول السريع وخلق أمر واقع قبل أن تكتمل جاهزية الإطار القانوني والتنظيمي للدولة المستهدفة. فبمجرد انتشار الأطباق وتعوّد المواطنين والمؤسسات على الخدمة، يصبح من الصعب سياسياً واقتصادياً أن تعود الدولة لتفرض شروطاً صارمة أو تعيد التفاوض من موقع قوة.
استنتاج سيادي:
أي تفاوض مع Starlink يجب أن ينطلق من وثيقة وطنية مكتوبة تضع الشروط السيادية أولاً، ثم تُعرض على الشركة، لا العكس.
خامساً: رفض إنشاء بوابة وطنية (Gateway) داخل العراق – جوهر الإشكال السيادي
- لماذا تصر المذكرة على بوابة عراقية؟
المعلومات المتاحة لي ومن مصدر موثوق تشير إلى أن الشركة ترفض – أو لا تتحمس – لإنشاء بوابة تحكم وطنية داخل العراق في الوقت الحاضر بحجة “الكلفة العالية”. في حين أن التقديرات الفنية تشير إلى أن كلفة محطة Gateway – قياساً بحجم السوق العراقي – ليست عائقاً أمام شركة بهذا الحجم والانتشار أذ ممكن تغطيها خلال أشهر من أرباحها ..
السبب الحقيقي وراء تجنّب البوابة الوطنية أن صح رفض الشركة يمكن تلخيصه في أربع نقاط:
- مرور البيانات عبر الأراضي العراقية: أي خضوعها – من حيث المبدأ – للاختصاص القضائي العراقي، وهذا ما لا تفضّله بعض الشركات.
- إمكانية القطع أو التقييد الوطني: وجود Gateway يعني إمكانية فرض آليات طوارئ عراقية على الخدمة.
- توطين البيانات: وجود بوابة ومراكز بيانات محلية يفتح الباب أمام إلزام الشركة بتخزين فئات من بيانات المستخدمين داخل العراق.
- إدارة مفاتيح التشفير: بوابة وطنية تعني ضرورة التوافق على إدارة مفاتيح التشفير من داخل العراق أو بالشراكة مع جهاته الرسمية.
- ماذا يعني غياب البوابة الوطنية؟
غياب Gateway داخل العراق يعني أن:
- بيانات المواطنين والوزارات والقطاعات الحيوية تمر مباشرة من الطبق إلى قمر صناعي ثم إلى بوابة في دولة أخرى،
- لا وجود لنقطة سيطرة عراقية على التدفق،
- لا قدرة عملية على الرقابة القانونية حتى في القضايا الجنائية والإرهابية،
- لا إمكانية لفرض تشريعات حماية بيانات أو تشفير وطني على تلك الحركة.
المعادلة بصيغة مباشرة:
بوابة وطنية داخل العراق = حد أدنى من السيادة التقنية والقانونية.
غياب البوابة الوطنية = شبكة موازية فوق رأس الدولة وخارج نطاق سيطرتها.
سادساً: Starlink كأداة نفوذ جيوسياسي وعسكري – دروس أوكرانيا وتحركات القوى الكبرى
- تجربة أوكرانيا كنموذج تحذيري
في الحرب الأوكرانية، أثبتت Starlink أنها ليست مجرد مزود إنترنت، بل بنية اتصالات حربية استخدمت في:
- ربط الوحدات الميدانية،
- إدارة الطائرات المسيّرة والاستطلاع،
- الحفاظ على الاتصالات رغم استهداف البنى الأرضية.
كما كشفت تقارير عديدة أن قرارات تشغيل أو إيقاف بعض الخدمات أو المجالات الجغرافية كانت ترتبط بقرار الشركة أو بمستوى من التفاوض السياسي، ما يعني أن مفتاح الاتصال في لحظات حاسمة قد لا يكون في يد الدولة المستفيدة.
- كيف تنظر القوى الكبرى إلى هذه المنظومة؟
الصين وروسيا، على سبيل المثال، تتعاملان مع Starlink ومع شبكات مماثلة كجزء من تهديد استراتيجي في الفضاء والفضاء السيبراني، وتبحثان عن بدائل محلية واستراتيجيات تعطيل أو موازنة لهذا النفوذ.
- الدلالة للعراق
العراق، بحكم موقعه الجيوسياسي وحساسية بيئته الأمنية، لا يمكنه أن يسمح بوجود بنية اتصالات فوق وطنية على أراضيه دون شروط واضحة، لأن ذلك يعرضه لأن يكون:
- ساحة لعمليات اتصال محمية بين أطراف خارجية وداخلية،
- ونقطة محتملة لتصفية حسابات أو إدارة صراعات إقليمية،
- ومصدر تهديد لبنيته الأمنية والاستخبارية في حال سوء الاستخدام.
استنتاج استراتيجي:
ملف Starlink في العراق يجب أن يُدار بوصفه ملف أمن قومي وسيادة معلوماتية قبل أن يكون ملف خدمة إنترنت وتجهيزات تقنية.
سابعاً: المخاطر السيادية لتشغيل Starlink دون بوابة وطنية وإطار ضابط
- انهيار السيادة المعلوماتية
أخطر ما في نموذج تشغيل Starlink بلا ضوابط هو أنه يخلق حالة من انهيار السيادة المعلوماتية، حيث:
- لا تمر الاتصالات عبر بوابات عراقية،
- لا يمكن إخضاعها لرقابة قضائية وطنية،
- لا تطبق عليها تشريعات حماية البيانات والأمن الوطني.
-
نشوء شبكة اتصالات موازية خارج سلطة الدولة
يمكن أن تستخدم خدمة Starlink من قبل:
- جماعات مسلحة،
- شركات وواجهات سياسية،
- منظمات غير حكومية ذات ارتباطات خارجية،
- أطراف دولية داخل العراق.
كل ذلك مع قدرة محدودة جداً للحكومة على الرصد أو الإيقاف أو فرض التشريعات.
- تهديد قطاعات الأمن والدفاع والاستخبارات
استخدام أطباق Starlink كقناة اتصال مشفرة ومستقلة قد يمكّن خصوماً للدولة من:
- إدارة عمليات ميدانية دون المرور بشبكات الاتصالات الوطنية،
- نقل بيانات حساسة خارج البلاد دون إمكانية التتبع،
- استخدام الشبكة في التنسيق بين خلايا في الداخل والخارج.
- تهديد الاقتصاد الرقمي الوطني
على مستوى الاقتصاد، فإن دخول مزود عالمي ضخم دون إطار منظم قد يؤدي إلى:
- تجاوز شبكات الاتصالات العراقية،
- إضعاف شركات الاتصالات المحلية وخسائر في الاستثمار الوطني،
- فقدان الدولة رسوم النفاذ والضرائب المرتبطة بالبنى التقليدية.
- فقدان القدرة على إدارة الاتصالات في الطوارئ
في حالات الطوارئ (أمنية، حربية، كوارث…)، تحتاج الدولة إلى أدوات للتحكم في الاتصالات. تشغيل Starlink من خارج السيطرة الوطنية يعني عملياً غياب زر الإيقاف الوطني (National Kill Switch) عن جزء مهم من الفضاء الاتصالي داخل العراق.
ملخّص المخاطر:
تشغيل Starlink بلا بوابة وطنية وإطار قانوني منضبط يعني: سيادة معلوماتية مثقوبة، شبكة موازية، اقتصاد متضرر، وفضاء اتصالات لا يمكن التحكم به في الأزمات.
ثامناً: تجارب دولية مختارة في التعامل مع الإنترنت الفضائي وStarlink
لم تتعامل الدول الكبرى مع Starlink على أنه مزود عادي للإنترنت، بل على أنه فاعل استراتيجي يتطلب أطراً تنظيمية خاصة. ويمكن تلخيص بعض التجارب في الجدول الآتي:
| الدولة | طبيعة التعامل | الدروس المستفادة للعراق |
| تركيا | لم تمنح ترخيصاً تشغيلياً فعلياً حتى استكمال دراسات هيئة BTK، مع ربط أي تشغيل بامتثال عالٍ لمتطلبات الأمن والسيادة. | عدم الاستعجال في الترخيص قبل نضوج الإطار القانوني والتنظيمي والاطمئنان إلى الشروط السيادية. |
| الهند | أوقفت الحجوزات المسبقة غير المرخصة، ثم منحت ترخيصاً موحّداً في إطار قواعد صارمة تتعلق بتوطين البيانات والقدرة على الحجب وحماية الأمن القومي. | ربط أي ترخيص بمستلزمات محلية قاسية تشمل توطين البيانات والامتثال الكامل لأوامر القضاء والسلطات الوطنية. |
| البرازيل | منحت تراخيص واسعة لـ Starlink، مع إصدار تنبيهات تنظيمية حول مخاطر المنافسة والهيمنة وقضايا السيادة الرقمية. | الموازنة بين الاستفادة الاقتصادية من الخدمة ورفع مستوى اليقظة التنظيمية تجاه آثارها السيادية طويلة الأمد. |
| الصين | تعاملت مع الشبكات الفضائية الغربية بوصفها تهديداً استراتيجياً وذهبت إلى بناء بدائل محلية واستراتيجيات تعطيل محتملة. | إدراك أن التحكم في البنية الاتصالية جزء من معادلة الأمن القومي وليس ترفاً تشريعياً أو تقنياً. |
خلاصة التجارب:
لا دولة مسؤولة تعاملت مع Starlink كخدمة إنترنت عادية؛ بل كعامل يؤثر في السيادة والأمن والاقتصاد، وبنت إطارها التنظيمي على هذا الأساس.
تاسعاً: ملامح الإطار الوطني المنشود لتنظيم الإنترنت الفضائي في العراق
-
مبادئ حاكمة
يمكن أن يقوم الإطار الوطني لتنظيم الإنترنت الفضائي على مجموعة مبادئ، أبرزها:
- السيادة المعلوماتية: كل حركة بيانات تنطلق من العراق أو تعود إليه يجب أن تكون – من حيث المبدأ – خاضعة للقانون العراقي وللولاية القضائية الوطنية.
- تكافؤ الفرص الاقتصادية: عدم السماح ببنية فضائية تدمّر قدرة شركات الاتصالات الوطنية على الاستمرار دون مقابل تعاقدي وسيادي واضح.
- الأمن الوطني: وجوب إمكانية الرقابة القانونية على الاتصالات في سياق مكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة والتجسس، وفق أطر قضائية واضحة.
- توطين البيانات الحساسة: إلزام الشركات الأجنبية بتخزين فئات محددة من بيانات المستخدمين والقطاعات الحيوية داخل العراق.
-
شروط أساسية يجب فرضها على Starlink أو غيرها
- إنشاء بوابة وطنية كاملة (Gateway + Control Center) داخل العراق تحت إدارة مشتركة بين: وزارة الاتصالات، جهاز الأمن الوطني، جهاز المخابرات، هيئة الإعلام والاتصالات.
- إخضاع الخدمة لمتطلبات الأمن السيبراني الوطني وفق أطر ومعايير منسجمة مع أفضل الممارسات العالمية (مثل ISO/IEC 27001، ومبادئ NIS2 لحماية البنى التحتية الحيوية).
- إدارة أو مشاركة إدارة مفاتيح التشفير الخاصة بحركة البيانات العراقية من داخل العراق.
- تضمين العقد نصاً صريحاً حول إمكانية تقييد أو قطع الخدمة بأمر سيادي في حالات الطوارئ المحددة في القانون.
- حظر البيع التجاري المفتوح للجمهور قبل استكمال الإطار القانوني وتنفيذ متطلبات البوابة الوطنية والتوطين.
رسالة هذا المحور:
المطلوب ليس منع الإنترنت الفضائي، بل تأميم قرار تشغيله داخل العراق وجعله مدمجاً في البنية الوطنية لا مفروضاً عليها من الخارج.
عاشراً: خارطة طريق تنفيذية مقترحة للحكومة العراقية
المرحلة الأولى (30 يوماً) – الإطار القانوني والتنظيمي
- تشكيل لجنة وطنية عليا للاتصالات الفضائية والإنترنت الفضائي برئاسة رئيس الوزراء أو من ينوب عنه، تضم الجهات الأمنية والفنية والتنظيمية المختصة.
- إعداد مسودة “قانون الإنترنت الفضائي” على أن يخضع بشكل مباشر للمعايير الدولية المعتمدة، وألّا تكون بنوده معزولة أو وضعية منفصلة عن الأطر التنظيمية العالمية. ويهدف هذا القانون إلى تنظيم تراخيص مزودي الإنترنت الفضائي، وإدارة الطيف الترددي، وتوطين البيانات، وتحديد حقوق الدولة في حالات الطوارئ، وفرض العقوبات على التشغيل غير المرخّص.”
- تعليق أي ترخيص أو تشغيل واسع لحين استكمال هذا الإطار واعتماده سياسياً وتشريعياً.
المرحلة الثانية (60 يوماً) – الإطار التقني والأمني
- إلزام Starlink بتقديم تصميم معماري تفصيلي للبنية المقترحة داخل العراق (نقاط الربط، البوابات، مراكز البيانات، أسلوب إدارة التشفير) ويتم مراجعة التصميم من قبل خبراء دوليين مستقلين .
- الاتفاق على إنشاء Gateway وطني ومركز تحكم مشترك ومركز مراقبة لحركة الإنترنت الفضائي.
- إعداد خطة Kill Switch وطنية تحدد الحالات والآليات القانونية والفنية لتقييد أو قطع الخدمة عند الضرورة.
- ربط منظومة الإنترنت الفضائي بمنظومة مركز وطني للأمن السيبراني لمراقبة التهديدات والاستغلالات المحتملة.
المرحلة الثالثة (90 يوماً) – تشغيل تجريبي خاضع للرقابة
- قصر التشغيل التجريبي على جهات حكومية مختارة في مناطق نائية أو قطاعات خدمية (تعليم، صحة، طوارئ) وفق عقود واضحة.
- إجراء تقييم دوري للآثار التقنية والأمنية والاقتصادية للتشغيل التجريبي.
- منع أي استخدام غير مصرح به للأطباق أو التوصيلات خارج هذا الإطار.
المرحلة الرابعة – الانتشار التجاري المدروس
- السماح بالتوسع التجاري التدريجي بعد التحقق من الامتثال الكامل للشروط السيادية والقانونية والفنية.
- تنظيم شرائح الاستخدام (مناطق ريفية – شركات – مشاريع خاصة) وفق سياسة وطنية للاتصالات الفضائية.
- فرض منظومة تراخيص فرعية للموزعين والوكلاء داخل العراق تخضع للرقابة والمساءلة.
- تطبيق عقوبات صارمة على أي جهة – محلية أو أجنبية – تشغّل أو تروّج لخدمة الإنترنت الفضائي خارج الإطار الوطني.
حادي عشر: توصيات سيادية موجهة لمجلس الوزراء والبرلمان والجهات الأمنية
- اعتماد توصيف رسمي للملف بوصفه “ملف سيادة معلوماتية وأمن قومي”:
وإدراجه ضمن أعمال مجلس الأمن الوطني، وعدم تركه في إطار النقاشات التقنية أو الاستثمارية الضيقة. - وقف أي تراخيص نهائية قبل حسم مسألة البوابة الوطنية وإدارة التشفير:
البوابة الوطنية وإدارة مفاتيح التشفير من داخل العراق يجب أن تكون شروطاً مسبقة لأي اتفاق. - تكليف الأجهزة الاستخبارية بإعداد تقييم شامل للمخاطر:
بمشاركة جهاز المخابرات، والأمن الوطني، وقيادة العمليات المشتركة، وهيئة الإعلام والاتصالات، مع رفع تقرير دوري لمجلس الوزراء. - تشريع “قانون الإنترنت الفضائي” بصورة عاجلة:
لسد الفراغ القانوني وتحديد المسؤوليات والحقوق والعقوبات، وتنظيم العلاقة مع الشركات الأجنبية في هذا المجال. - ضمان تكامل الإنترنت الفضائي مع البنى الوطنية لا فوقها:
ربط Starlink – إن دخلت – بشبكات الألياف الضوئية الوطنية ومراكز البيانات العراقية، وعدم السماح بتشكيل “جزيرة اتصالات” منفصلة فوق البنى المحلية. - إدراج الملف في أجندة العلاقات الخارجية:
التعامل مع قضية الإنترنت الفضائي ضمن الحوار مع الشركاء الدوليين (الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الدول الإقليمية) بوصفه موضوعاً مرتبطاً بالسيادة لا مجرد “خدمة” في السوق.
رسالة موجزة لصانع القرار:
السماح بدخول Starlink دون إطار سيادي واضح يشبه فتح بوابة خلفية في جدار السيادة العراقية؛ يمكن إغلاقها اليوم بشروط عادلة، لكن سيكون بالغ الصعوبة إغلاقها بعد أن تتحول إلى حاجة يومية للمواطن والمؤسسة والقطاع الحيوي.
ثاني عشر: خاتمة – بين فرصة وطنية وثغرة استراتيجية
لا شك أن الإنترنت الفضائي – في جوهره التقني – يمثل فرصة مهمة للعراق من أجل:
- خدمة المناطق المحرومة من البنى التحتية الأرضية،
- تعزيز المرونة الاتصالية في أوقات الكوارث والطوارئ،
- ودعم مشاريع التحول الرقمي في الإدارة والخدمات والتعليم والصحة.
لكن هذه الفرصة يمكن أن تتحول، إذا أُهملت أبعادها السيادية، إلى أخطر ثغرة اتصالات في تاريخ الدولة العراقية بعد 2003، لأنها تمسّ مباشرة مفاصل السيطرة على تدفق المعلومات والاتصالات داخل البلاد.
إن المسار الأمثل ليس الانغلاق ورفض التكنولوجيا، ولا التسليم الأعمى لشركات عابرة للحدود؛ بل بناء نموذج عراقي خاص يوازن بين:
- حق المجتمع في الوصول إلى تكنولوجيا متقدمة،
- وحق الدولة في حماية سيادتها وأمنها الوطني ومواطنيها،
- وحق المؤسسات الوطنية في بيئة منافسة عادلة وغير مدمّرة.
إن العراق يمتلك – بما يملكه من موقع جغرافي ووزن بشري وسياسي – فرصة ليكون دولة رائدة في صياغة إطار سيادي متكامل ينظم الإنترنت الفضائي في المنطقة، بدل أن يكون مجرد ساحة اختبار لنماذج تُصاغ في مكان آخر.
التزام مهني:
يضع مركز iTach Denmark – مركز أستشاري في السيادة الرقمية والأمن المعلوماتي كامل خبراته تحت تصرف الدولة العراقية ومؤسساتها الرسمية للمساهمة في: صياغة الأطر التشريعية والتنظيمية، وتقييم المخاطر التقنية والاستخبارية، ووضع السياسات الوطنية الخاصة بملف الإنترنت الفضائي وStarlink على وجه الخصوص.
التوقيع
م. مصطفى كامل الشريف
المدير التنفيذي – iTach Denmark
مستشار في أمن المعلومات والسيادة الرقمية – الدنمارك / العراق
ثالث عشر: المصادر والمراجع المعتمدة
تم إعداد هذه المذكرة بالاستناد إلى مجموعة من البيانات الرسمية والتقارير والتحليلات والدراسات المتخصصة في مجالات الإنترنت الفضائي والسيادة الرقمية، من بينها:
- بيانات وتصريحات رسمية عراقية حول استقبال وفد شركة SpaceX – Starlink:
بيانات مكتب رئيس مجلس الوزراء وتقارير إعلامية محلية تناولت اللقاء وسياق إدخال الإنترنت الفضائي كجزء من مشاريع التحول الرقمي. - الوثائق التنظيمية والتصريحات الصادرة عن هيئات تنظيم الاتصالات في دول مثل تركيا والهند والبرازيل:
للإطلاع على كيفية تعامل هذه الدول مع تراخيص الإنترنت الفضائي، ومتطلبات الترخيص الأمنية والفنية، وشروط توطين البيانات وإمكانية الحجب أو التقييد. - تقارير وتحليلات دولية حول استخدام Starlink في الحرب الأوكرانية:
التي وثّقت دور الشبكة في دعم الاتصالات الميدانية والعسكرية، وما أثاره ذلك من نقاشات حول علاقتها باستراتيجيات الأمن القومي للدول الغربية. - أبحاث ودراسات حول السيادة الرقمية وتوطين البيانات:
تتناول مفهوم السيادة على الفضاء السيبراني، وأهمية التحكم في البنى التحتية الاتصالية ومسارات الكابلات والبوابات الدولية، وربط ذلك بالسياسات العامة للدول النامية. - مراجع تقنية حول بنية شبكات الأقمار الصناعية ذات المدار المنخفض (LEO) ونماذج عمل الإنترنت الفضائي:
توضح الفروق بين المسارات التقليدية لحركة البيانات عبر الكابلات البحرية والأرضية، وبين المسارات الجديدة التي يتيحها الإنترنت الفضائي وتأثيرها على نماذج السيطرة والحوكمة. - أدبيات متخصصة في حوكمة الكابلات البحرية والبنى الاتصالية العابرة للحدود:
تبرز كيف أصبحت الكابلات ومحطات الإنزال والبوابات الدولية عناصر في معادلات القوة الجيوسياسية، وليست مجرد أصول تقنية أو تجارية.
إضافة إلى ذلك، استندت المذكرة إلى خبرة ميدانية تحليلية في قضايا الأمن المعلوماتي والسيادة الرقمية في البيئات الهشة، وقراءة مقارنة لتجارب دولية يمكن الاستئناس بها عند تصميم الإطار الوطني العراقي لهذا الملف.


