مستقبل التجسس في عمليات الطيف الكهرومغناطيسي /الحلقة 6

مستقبل التجسس في عمليات الطيف الكهرومغناطيسي /الحلقة 6
يتناول المقال مستقبل التجسس في الطيف الكهرومغناطيسي وتأثيرات الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية والفضاء على حياتنا اليومية. يتعرض لتهديدات محتملة عبر الأنظمة الإلكترونية مثل الطائرات والمدن والسيارات ذاتية القيادة، وتسلط الضوء على أهمية الأمن الطيفي والسباق التكنولوجي في المستقبل....

الحلقة السادسة و الأخيرة من سلسلة “عمليات الطيف الكهرومغناطيسي

مقدمة قصصية

في مقالي لهذا اليوم (الحلقة الأخيرة) من عمليات الطيف الكهرومغناطيسي . أتحدث عن مستقبل التجسس في عمليات الطيف الكهرومغناطيسي وكيف يغيّر الذكاء الاصطناعي والحرب السيبرانية والفضاء حياتنا اليومية. تخيلوا معي ثلاث سيناريوهات ممكن حدوثها في وقتنا الرهن .

السيناريو الأول: تخيّل أنك في طائرة متجهة من بغداد إلى إسطنبول. فجأة يظهر خلل في نظام الملاحة، فتبدأ الطائرة بالانحراف بضع درجات، بينما الركاب مطمئنون يظنون أن كل شيء طبيعي. في برج المراقبة أيضًا، الشاشات تعرض مسارًا سليمًا. الحقيقة أن هناك إشارة مزيفة خداع إلكتروني متقن جعل أنظمة الملاحة تعتقد أنها تسير بشكل صحيح وهي تنحرف تدريجيًا.

وليس الأمر مقتصرًا على الطائرات. بل نفترض السيناريو الثاني : استيقظ سكان مدينة كوبنهاغن على خبر صادم الإنترنت متوقف بالكامل، المصارف مشلولة، محطات القطارات متأخرة، وشبكات الهاتف بلا تغطية. لم يكن السبب زلزالًا أو عاصفة، بل إشارات مزيفة في الطيف الكهرومغناطيسي عطّلت أنظمة التوقيت والمزامنة التي تعتمد عليها هذه البنى الحيوية.

أما السيناريو الثالث : لنتتخيّل سيارة ذاتية القيادة في شوارع ستوكهولم أو كوبنهاغن. السائق يطمئن إلى نظام الملاحة الذكي ويعتمد عليه كلياً في القيادة الذاتية، لكن فجأة تنحرف السيارة عن مسارها الصحيح لأن إشارة GPS تعرضت للخداع. السيارة تظن أنها تتبع الخريطة، بينما في الواقع يجري التحكم بها عن بعد عبر موجات مزيفة في الطيف الكهرومغناطيسي مما يجعل السيارة سلاح تخريبي بيد المخترقين وتتحول هذه التكنلوجية من نعمة الى نقمة ضد المجتمع. السيناريو الأخير تحدثت عنه بالتفصيل في مقال سابق كيف تناولت بعض أفلام هوليوود هذا الخطر، ومنها فيلم أُنتج عام 2023 صوّر هجومًا سيبرانيًا يسيطر على السيارات ذاتية القيادة ليغلق الخط السريع ويخلق آلاف الحوادث.

(للاطلاع على المقال أضغط على الرابط أدناه):

رسائل خفية في أفلام هوليوود: التكنولوجيا، الخطر القادم

هذه الأمثلة الثلاثة الطائرة، المدينة، والسيارة تكشف حقيقة واحدة فقط وهي أن الموجات غير المرئية التي تحمل إشاراتنا يمكن أن تغيّر مسار حياتنا بالكامل. ما نراه هنا ليس مجرد خيال علمي، بل واقع يتشكل الآن. وإذا كانت مقالاتي السابقة في هذه السلسلة قد تناولت الماضي والحاضر، فإن هذه الحلقة السابعة والأخيرة تفتح نافذة على المستقبل كيف سيحوّل الذكاء الاصطناعي، الحرب السيبرانية، والفضاء الطيفَ الكهرومغناطيسي إلى ميدان صراع يعيد رسم ميزان القوى العالمي..

ما هو الطيف الكهرومغناطيسي ولماذا هو مهم؟

الطيف الكهرومغناطيسي ببساطة هو «اللغة الخفية» التي تتواصل بها أجهزتنا:

  • إشارات الهاتف المحمول، الواي فاي، الراديو، التلفاز.
  • أنظمة الملاحة GPS وGalileoوBeiDou .
  • الرادارات التي ترصد الطائرات.

بكلمات أبسط: تخيّل الطيف كطريق سريع غير مرئي تمشي فيه الالاف السيارات (الإشارات). من يسيطر على الطريق يستطيع أن يوقف السير، يغيّر الاتجاهات، أو حتى يزرع سيارات مزيفة لخداع الآخرين.

كيف تغيّر الذكاء الاصطناعي في عالم التجسس؟

الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة تسريع بل إنه يغيّر ماهية المهمة نفسها من تحليل لاحق للبيانات إلى قرار وقتي وتجريبي قادر على التأثير الميداني. هذا يفتح إمكانيات دفاعية هائلة، لكنه يرفع أيضًا سقف المخاطر خصوصًا حين يستخدمه خصوم لإخفاء أو تحسين هجماتهم. لذلك، الاستثمار في AI للطيف يجب أن يقترن باستثمارات موازية في البيانات، الأمن النموذجي، الحوكمة، والتدريب البشري.في الماضي، كان اعتراض الإشارات عملية بطيئة لأنه يعتمد على فرق من الخبراء يجلسون أمام شاشات لساعات طويلة ليحللوا الموجات. لكن اليوم، الذكاء الاصطناعي يفعل ذلك آليًا، وبسرعة هائلة:

  • يميز بين إشارات مهمة وغير مهمة.
  • يكشف الشذوذات (anomalies) التي قد تدل على نشاط غير عادي.
  • يستطيع حتى أن يتعلّم بروتوكولات لم تُوثَّق رسميًا.

بكلمات أبسط: مثلما يتعرف تطبيق الهاتف على وجهك في ثوانٍ، يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يتعرف على «بصمة» كل جهاز أو رادار وسط بحر من الضوضاء.

عندما يلتقي الطيف مع الهجوم السيبراني

الخطر الأكبر ليس فقط في التجسس على الإشارات، بل في دمج ذلك مع الهجمات السيبرانية.
كيف؟

  1. إذا اعترضت إشارات المصادقة بين جهازين، يمكنك استخدامها للاختراق.
  2. إذا سيطرت على قنوات الصيانة اللاسلكية، يمكنك زرع برمجيات خبيثة.
  3. إذا عطّلت توقيت GPS، يمكن أن تشلّ نظامًا ماليًا أو محطة كهرباء تعتمد عليه.

قصة مبسطة: الأمر يشبه سرقة نسخة من مفتاح بيتك (الإشارة) ثم الدخول للبيت عبر الباب الخلفي هنا يمثل(الهجوم السيبراني).

أمثلة على سيناريوهات تهديد

·تضليل الطائرات عبر إشارات GPS مزيفة

يمكن لمهاجم أن يشوش أولاً على إشارات GPS الحقيقية، ثم يرسل إشارات مزيفة تجعل الطائرة تظن أنها في مسار آخر.
النتيجة: ارتباك في الملاحة قد يؤدي إلى كوارث.

·سرقة بيانات من منشأة – معزولة

حتى الحواسيب غير المتصلة بالإنترنت ليست آمنة بالكامل. يمكن استخراج بيانات منها عبر الانبعاثات الكهرومغناطيسية أو حتى من وميض لمبة LED!

(تفاصيل كيف يمكن ستخراج بيانات عبر الانبعاثات الكهرومغناطيسية أو حتى من وميض لمبة LED أجبت عليها في الدراسة التفصيلية التي أعددتها لهذا الموضوع لا أريد التعمق هنا في المقال بأمور تقنية مملة للقارء الغير مختص.)

·تعطيل مدينة ذكية

إذا جُمعت هجمات طيفية مع اختراق سيبراني لشبكات النقل، يمكن أن تتوقف إشارات المرور أو تختفي بيانات التوقيت. تخيل مدينة كاملة تغرق في الفوضى بسبب «تلاعب في الإشارات».

هل يمكن كشف هذه الهجمات؟

نعم، لكن الأمر صعب ويتطلب بنية تحتية متطورة:

  • نشر مستشعرات طيفية في المطارات، الموانئ، ومحطات الطاقة.
  • دمج الذكاء الاصطناعي لكشف التغييرات المفاجئة في الإشارات.
  • وجود خطط بديلة: مثل استخدام أنظمة ملاحة تقليدية (INS) مع GPS.
  • التدرّب عبر تمارين دورية لمحاكاة سيناريوهات تشويش وخداع.

بكلمات أبسط: تمامًا كما تضع إنذارًا ضد السرقة في بيتك، تحتاج الدول والمؤسسات إلى –إنذارات طيفية تكشف أي إشارة غير طبيعية فورًا.

ماذا عن الفضاء؟

لم يعد الفضاء مجرد مجال لإطلاق أقمار التلفاز والطقس. اليوم:

  • أقمار صغيرة (CubeSats) يمكنها رصد أو حتى التشويش على إشارات.
  • تعطيل الأقمار التي توفر توقيت GPS قد يربك العالم بأسره.
  • لا توجد حتى الآن قواعد دولية واضحة لتنظيم «الحرب الطيفية» من المدار.

الفضاء اليوم ليس خلفية تقنية هادئة؛ إنه بُعد نشط يحمل فرصًا استخباراتية وتجارية وفي الوقت نفسه، يفتح جبهات جديدة للصراع. التعامل مع هذا التحوّل يتطلب توازناً بين بنى تحتية تقنية مرنة، سياسات دولية واضحة، وإشراك قوي للقطاع الخاص. بدون إطارٍ ناظم وقيود دولية متفق عليها، قد يصبح المدار مكانًا لتصعيدات تصعب السيطرة عليها وتؤدي لتداعيات إنسانية واقتصادية واسعة.

بكلمات أبسط: تخيل أن السماء نفسها أصبحت جزءًا من ساحة المعركة.

من يملك القوة الآن؟

  • في الماضي: الدول العظمى فقط.
  • اليوم: أجهزة رخيصة (SDR) متاحة لأي مجموعة.
  • شركات خاصة تقدم الأستخبارات كخدمة  (Intelligence as a Service).

النتيجة: لم يعد الأمن الطيفي قضية دولية فقط، بل تهديدًا مفتوحًا يمكن أن يأتي من دول، جماعات، أو حتى أفراد متمكنين.

التحديات القانونية والأخلاقية

  • كيف نحدد إن كان التشويش عملًا عدائيًا أم مجرد خطأ تقني؟
  • كيف نمنع الإضرار بالمدنيين إذا أثرت الهجمات على إشارات الهاتف أو الإنترنت؟
  • من يراقب الجهات الأمنية نفسها عندما تعترض الإشارات؟

هذه الأسئلة تفتح نقاشًا عالميًا حول السيادة، الخصوصية، والتصعيد في زمن الحرب الإلكترونية.

أجوبت هذه الاسئلة أجبت عليها في الدراسة التفصيلية التي أعددتها لهذا الموضوع لا أريد التعمق هنا في المقال بأمور تقنية مملة للقارء الغير مختص.

ما الذي يمكن فعله؟

  • وحدات وطنية متخصصة تجمع بين خبراء الطيف الكهرومغناطيسي وخبراء الأمن السيبراني.
  • شبكات مراقبة طيفية موزعة تغطي النقاط الحيوية في البلاد.
  • قوانين واضحة تحدد صلاحيات الاعتراض والاستجابة.
  • شراكات مع القطاع الخاص لتبادل المعلومات عن التهديدات.
  • تدريب وتمارين منتظمة تحاكي سيناريوهات هجومية معقدة.

بكلمات أبسط: الطيف الكهرومغناطيسي والمجال السيبراني والمجال الجوي/الفضائي تداخلت معًا وأصبحت أجزاء من نفس ساحة المعركة. يجب أن نُعامل الطيف الكهرومغناطيسي(الذي تنقل عبره الإشارات)، والفضاء السيبراني (البيئة الرقمية)، والمجال الجوي/الفضاء (المنصات والأجهزة) كما نعامل الحدود كلها تحتاج حماية مستمرة وتنسيق دولي..

ملاحظة: حين أذكر المنصات والأجهزة في المجال الجوي/الفضائي فأنا أقصد:محطات الفضاء أو منصات مدارية أخرى يمكنها حمل مستشعرات.

في المجال الجوي:

  • الطائرات (مدنية وعسكرية).
  • الدرونات UAVs.
  • مناطيد أو منصات مراقبة محمولة جواً.

في الفضاء الخارجي:

  • الأقمار الاصطناعية (الاتصالات، الاستشعار، الملاحة مثل GPS/Galileo/BeiDou).
  • CubeSats والأقمار الصغيرة (LEO constellations مثل Starlink).

الخاتمة

مستقبل التجسس في الطيف الكهرومغناطيسي ليس بعيدًا، بل هو حاضر الآن. من إشارات GPS التي توجه سياراتنا، إلى الشبكات التي تدير مطاراتنا، إلى الأقمار التي تبث الإنترنت كل ذلك معرض للتلاعب.
الذكاء الاصطناعي يجعل الهجمات أسرع وأدق، الفضاء يفتح جبهة جديدة، والتكامل مع الحرب السيبرانية يحوّل الطيف إلى أداة تأثير مباشر.

إذا أردنا أن نعيش في عالم آمن، يجب أن نرفع وعينا كأفراد، مؤسسات، ودول. فالأمر لم يعد مجرد (تجسس على المكالمات)، بل صار قدرة على التحكم في إيقاع الحياة الحديثة كلها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *