محطات التحلية الغائبة وملوحة الغضب: كيف تحوّل الماء إلى تهديد سياسي في شمال البصرة؟

محطات التحلية الغائبة وملوحة الغضب: كيف تحوّل الماء إلى تهديد سياسي في شمال البصرة؟
تحولت أزمة ملوحة المياه في شمال البصرة من خلل خدمي إلى تهديد سياسي، كاشفةً فشل الإدارة المحلية وتآكل الثقة الشعبية، حيث بات غياب محطات التحلية رمزاً لعجز السلطة واختباراً لشرعيتها وقدرتها على الاحتواء....

في شمال البصرة لم تعد أزمة المياه مجرد خلل فني أو ظرف طارئ يمكن احتواؤه ببيان أو زيارة ميدانية ، ان ما يجري هناك اليوم يشبه محاكمة مفتوحة للسلطة المحلية تبدأ من ملوحة الماء ولا تتوقف عند حدود الخدمات بل تمتد إلى جوهر الثقة بين المواطن والحكم.

خرج الأهالي وهم يحملون مطلبًا يبدو بسيطًا في ظاهره ماء صالح للشرب ولكن هذا المطلب سرعان ما كشف عمق الأزمة فحين يفتح المواطن صنبوره وتخرج المياه مالحة لا يعود بحاجة إلى خطاب سياسي كي يدرك أن هناك خللا بنيويا وأن الوعود التي قطعت على مدى سنوات لم تغيّر شيئًا من واقعه اليومي.

الاحتجاجات هذه المرة لم تنتظر طويلًا حتى ترفع سقفها وان المطالبة باستقالة المحافظ ظهرت مبكرا وكأن الشارع أراد أن يقول إن المشكلة لم تعد تختصر بأنبوب مكسور أو محطة متوقفة بل بإدارة كاملة عاجزة عن حسم ملف يعرف الجميع أنه الأخطر في البصرة ومع الرد الأمني العنيف خرج المشهد من كونه حراكًا خدميًا إلى مواجهة سياسية مفتوحة أعادت إلى الأذهان فصولًا مؤلمة من تاريخ الاحتجاج في المحافظة.

وسط هذا الغضب يبرز سؤال لا يمكن القفز عليه ، أين وصلت محطات التحلية التي وُضع حجر الأساس لها؟

كم مرة شاهد البصريون مراسم وضع حجر أساس لمشاريع قيل إنها ستحل أزمة الملوحة جذريا؟ وكم محطة دخلت الخدمة فعليا ؟ وكم مشروع بقي حبيس اللافتات والملفات؟ هذا السؤال لم يعد ترفا صحفيا أو مادة للجدل بل صار محور الاتهام الأول في الشارع.

كتلة “تصميم”، التي تقود الحكم المحلي بنت مشروعها السياسي على فكرة الإنجاز وقدمت نفسها بوصفها إدارة تعمل بصمت وتترك النتائج تتكلم لكن أزمة المياه فضحت هشاشة هذا الخطاب عندما يتعلق الأمر بملف لا يحتمل التأجيل أو التجميل فالطرق يمكن افتتاحها والجسور يمكن تصويرها لكن الماء لا يخضع للكاميرا إما أن يكون صالحا للشرب أو يتحول إلى دليل إدانة يومي.

في شمال البصرة حيث تراكم الإحساس بالإهمال لم يعد المواطن يسأل من المسؤول عن الأزمة بل لماذا لم يحاسَب حتى الآن من أعلن الحلول ولم ينفذها وحين يشعر المحتج أن صوته لا يسمع إلا بعد إغلاق طريق أو مواجهة قوة أمنية فإن المسافة بينه وبين الدولة تتسع وتتحول المطالب من إصلاح الخلل إلى رفض المنظومة التي أنتجته.

هل ما يجري اليوم هو بداية نهاية حكم “تصميم” في البصرة؟ قد يكون من المبكر الجزم بذلك ولكن المؤكد أن ما يحدث هو بداية تصدع خطير في الشرعية الشعبية. فالسلطات لا تسقط عادة بضربة واحدة بل تتآكل تدريجيًا عندما تفقد قدرتها على الإقناع ثم على الاحتواء وأخيرًا على السيطرة الرمزية على الشارع.

قد تنجح الإدارة المحلية في احتواء هذه الموجة عبر وعود عاجلة أو حلول إسعافية لكن السؤال الأهم سيبقى معلقا ، وهل ستتحول محطات التحلية من حجر أساس إلى ماء في بيوت الناس؟ أم أن ملف المياه سيظل القنبلة المؤجلة التي تنفجر في كل صيف ومعها ينفجر الغضب؟

في البصرة لا تقاس قوة السلطة بعدد المشاريع المعلنة بل بعدد الأزمات التي حُلت فعليا والماء مرة أخرى يثبت أنه ليس مجرد خدمة بل الميزان الذي يختبر صدقية الحكم.

في شمال البصرة الملوحة لم تعد في الماء فقط

بل في العلاقة بين الشارع والسلطة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *