هذه اللوحة تحمل روح: “الذاكرة العراقية الجريحة” بأسلوب تعبيري كثيف، وتبدو أقرب إلى المدرسة الانطباعية الحديثة ممزوجة بلمسة درامية تمنح المشهد ثِـقله التاريخي والإنساني. فيما يلي نقد فني مفصل:
أولاً: التكوين ..
تأتي الشخصيات في مقدمة اللوحة مصطفّـة بشكل غير منتظم، لكنّ هذا “اللانظام” نفسه يعكس حالة الفوضى والرعب التي كانت تلاحق الضحايا في زمن الاستبداد.
الصفّ الأمامي من الجالسين المكبّـلين يهيمن على الصورة بشكل واضح، بينما يقف في الخلف حرّاس أو جنود بملامح مطموسة، وكأن الفنان الدكتور علي شريف يريد القول: إن الجلاد لا يستحق وجهاً ولا ذاكرة.
العمق في اللوحة مُـعالج بذكاء: الوجوه الأمامية واضحة أكثر، بينما تتلاشى التفاصيل كلما اتجهنا للبعيد، في استعارة بصرية لضعف قدرة الذاكرة على استيعاب كل حجم الألم الذي تسبب به نظام قمعي إستبدادي.
ثانياً: اللون ..
تغمر اللوحة درجات الأصفر، البرتقالي، والأحمر، وهي ألوان النار والحرّ والقسوة، كأن د. علي شريف يعيد القارئ إلى جحيم الصحارى التي شهدت الإعدامات الجماعية والدفن تحت الشمس العراقية اللاهبة.
الأزرق والبنفسجي يظهران في ثياب بعض الضحايا، في توازن متعمد مع الألوان الحارّة، ليكشف الفنان عن “الصراع بين الحياة والموت”:
- الألوان الدافئة هي العنف والسلطة.
- الألوان الباردة هي الضعف والإنسانية.
هذه الثنائية تمنح اللوحة توتراً بصرياً مؤلماً.
ثالثاً: ضربات الفرشاة ..
الأسلوب المعتمد هو أسلوب بضربات فرشاة كثيفة وملساء في آن واحد. هذه التقنية تجعل السطوح خشنة، وكأن الذاكرة نفسها خشنة ومتكسّـرة، لا تُـروى بسلاسة، بل تُـنتزع انتزاعاً. كل ضربة فرشاة في وجوه الضحايا تحمل ثقل صرخة مكبوتة، وغياب ملامحهم الدقيقة مقصود: هؤلاء يمثلون “جمعاً من العراقيين” وليس أشخاصاً بعينهم الوجه هنا لغة جماعية، لا فردية.
رابعاً: الحركة والجمود ..
رغم أن المشهد سكوني، إلا أن اللوحة مليئة بالحركة الداخلية:
- حركة التوهج في السماء.
- حركة الظلال التي تشبه دخاناً أو غباراً.
- حركة انحناءة الأجساد وكأنها تقول: “نحن لم نستسلم نحن فقط ننتظر المصير”.
الجمود يخصّ الضحايا، أما الحركة فتخص البيئة كأن الطبيعة تشهد على الجريمة وتفور غضباً.
خامساً: الرسالة الرمزية ..
هذه ليست مجرد لوحة؛ إنها شهادة بصرية على الجرائم التي ارتكبها نظام صدام البعثي ضد العراقيين. التمويه في تفاصيل وجوه الجلادين هو إدانة أخلاقية؛ الفنان يُـظهر أن المجرم يخجل من وجهه، بينما الضحية يمتلك نور الإنسانية رغم الانكسار. الضوء الذي يغمر المشهد من الأعلى يحمل دلالة مزدوجة:
- نور الحقيقة الذي سيكشف الجريمة مهما طال الزمن.
- أو ضوء الغياب ضوء اللحظة الأخيرة قبل الموت.
سادساً: الانطباع العام ..
اللوحة تحوّل الذاكرة السياسية إلى لغة لونية. إنها: فنّ يوثّـق وفنّ يُـدين وفنّ يذكّـر بأن الألم العراقي لم يكن حالة فردية بل مأساة شعب. إنها لوحة موجعة، لكنها ضرورية لتذكيرنا أن الجريمة لا تُـنسى، وأن العراقيين دفعوا ثمن الاستبداد بدمهم وظلالهم وذكراهم.


