يسألونكَ عن متاع العمر… قُلْ:الشِّعر
في مجموعتهِ الشعرية الجديدة(مِن ظلال كرومها) يخوض الشاعر:نصير الشيخ تجربة جديدة يضيفها باستحقاق جمالي واشتغال أدبي متميز إلى حصيلة تجاربهِ الشعرية السابقة التي مَثّلتْ محطات بارزة ومهمة في مسيرته الشعرية التي بدأها منذ العام 1997 بمجموعتهِ الشعرية الأولى(مساقط الظل)وأعقبها ب(في أعالي الكلام)و(شجر من محنة الوقت)وبعدها(كأس لحياة اخرى)
ومِن أبرز سمات وخصائص(مِن ظلال كرومها)هذا التنوع الثر والتعدد في (الثيمات)العامة والأفكار والتصورات والأغراض التي تناولها في نصوصه ال(40) التي ضمَّتْها المجموعة بين دفتيها،فضلاً عن الجهد والإجتهاد في استخدام الأشكال والأساليب الشعرية في معالجة تلك الموضوعات الشعرية والطرائق الفنية المُتّبعة فيها،وقد قادَ هذا التعدد والإشتغال الشعري المتنوع إلى حصيلة شعرية تباينتْ فيها مستويات النصوص من حيث المبنى والمعنى وكذلك في مدى إخلاصها في تحديد مستوى ونوع العلاقة مع المتلقي من حيث القرب والبعد والحرص على إيصال رسالتها إليه،فضلاً عن الحفاظ على الأداء الشعري المتقن،آخذين بنظر الإعتبار أنَّ نصوص المجموعة توزّعتْ بين قسمين رئيسين من أنواع البناء الشعري العام هما:البنية السطحية(الظاهرية)والبنية العميقة( الباطنية)وقد تراوحتْ النصوص فيها من النصوص الطويلة إلى القصيرة ومن البناء المقطعي العام إلى البناء المُرقّم المعدود.
أوّل ما يمكن ملاحظته في هذه المجموعة هو تراجع ثيمة الحرب عن حضورها السابق في المجموعات الشعرية السابقة،في حين هيمنتْ المرأة وموضوعة الحب والعاطفة بحضور طاغ ٍفي مجموعة كبيرة من النصوص وهو الموضوع الأثير والقريب إلى نفس الشاعر والمتفنن دائماً في التعبير عنه وإيجاد الأشكال الشعرية والمعالجات الجمالية في تناولها وابتكار الأساليب في صياغتهِ،وحتى في هذا الموضوع وجدتُ أنَّ الشاعر قد تعددتْ رؤاهُ وتباينتْ طرائق تناولهِ وطرحهِ داخل نصوص(مِن ظلال كرومها)التي يشيرُ ويمهّدُ عنوانها إلى هذه الثيمة والدلالة عليها.
وهنا يتبدى لنا سحر اللغة الشعرية لدى(نصير الشيخ)بالصور الحسِّية البليغة والتعبيرات اللغوية المتدفقة التي تنهل قوتها من الشعور وتستعير تشبيهاتها الجمالية من الإحساس المرهف وتستمد حضورها المفعم بالسخونة والتأجج من العاطفة المشبوبة.
هذا التوق العاطفي يدفع بالذات العاشقة إلى أنْ ترمّمُ ما خلّفتْهُ الحروب لتخرج من دائرة الغبار ورماد المواسم ولا يبقى أمامها سوى الإرتماء في أرجوحة الحلم المستحيل فتقول كلمتها( أُحبُّكِ) حيث يمنحها الحب القدرة على السير في طرقات المتاهة ليسرد لنا قصة حب بين عاشقين في ظل أجواء الحرب والطائرات القاصفة وجحيم الشظايا ويقف بينهما الجسر المفضي إلى الضفة الأخرى ..ضفة الحلم.
ويبدو(نصير الشيخ)في هذه النصوص وكأنّهُ شاعر قد عاش للحب .. وللحب فقط فهو يرسم صورة عاشق مُتوهج يورقُ بالعشق ويجاهد في سبيل إطفاء جمر الوحشة والحزن،إنهُ يحتطب أزاهير التمني وشجيرات الجنون لكنّهُ يحملُ على ظهرهِ جبال من عناء.. حالماً بالنرجس والياسيمن.
ومقابل هذه الصور الحسية والحضور الطاغي للمرأة تطالعنا نصوص أخرى ضمن هذا الأسلوب الرومانسي،لكن في صورة مغايرة تجسّدُ الغياب الواضح لتك المرأة فتبقى الذات تبحث عن الحب في ظل الغياب الغريب للحبيبة التي أدمنَ(الحبيب) إنتظارها المُدوّي وليس لديه منها سوى الكلمات العالقة مثل طيف في الغيب،وإزاء ذلك يزداد ما حولَهُ قبحاً ونباحاً،في حين يفشل هو في إيقاظ الرغبة في الجسد الذي يشتهيه فيصبح مثل شجر حزين وقد إشتعلتْ جمرة الندم فيه وتبرعمتْ الخيبة في عروقهِ ولا شيء يدّلهُ عليها فيسير في طريق معتم لا يؤدي إلاّ إلى الضياع.
ومع ذلك يبقى ينتظر رغم أنَّ لا شبح.. ولا ظل يلوح لها،ومن شرفات اليأس يبدو وهو يلملمُ ما أبقى له طريق الإنتظار من رماد الشعور باليأس المستدام .. إنَّها صورة من صور الإنتظار العقيم غير المثمر.والذي يستحضره الشاعر في نص آخر وعلى نحو أكثر وضوحاً في نص(تأخرتَ كثيراً ياغودو) حيث تقف شخصية الأخير رمز الإنتظار غير المجدي والمُسّتلة من مسرحية(في إنتظار غودو) لصاموئيل بيكيت الشهيرة،إذ يحضر(غودو)في عتبة العنوان لكنّهُ يغيب عن متن النص،فالشاعر هنا لا يقتبس من المسرحية ولا يتناص معها،إنّهُ يبحث عن خاتمة العرض المسرحي التي طال إنتظارها من أجل إسدال ستائر الحرب والدموع،ولذا يبتكر(الشخص الغائب)أو المُنتظر الذي أوغل كثيراً في الغياب،وكأني بالنص يستحضر المعنى الغائب عن الحياة!
وفي نفس قصائد الغياب والعاطفة المنكسرة تندرج قصيدة(سيدة الغمام)لكنّها جاءتْ غامضة ً تحمل رسائلها السرية بلغة مكتومة وكأنها تخشى البوح عن العاطفة أو الكشف عن مكنوناتها وهواجسها النفسية أو الإفصاح عن رغبات الجسد وإندفاعه وتوقه، فنحن نستشف الجو العاطفي المشحون لكننا نلمس غياب الصور الحسِّية المُعبّرة،في حين تستعير قصيدة(هذا نشيدي.. افتحوا البحر)لغة الحب،لكن الذات تبدو ملتاعة ً تغوص في غربتها ولوعتها ويلفُّها هجير الهجر ،وتعبث الريح بعمر مكسور ماتتْ فصولهُ وخلّفتْ أيامَهُ يتامى.


