المقدمة
يُعدّ يوم 10 كانون الأول من المحطات المفصلية في التاريخ السياسي والأمني للعراق , ففي هذا اليوم أعلن العراق انتصاره النهائي على تنظيم داعش الإرهابي، بعد حرب مركّبة تعدّ من أشرس الحروب غير التقليدية التي خاضتها دولة في القرن الحادي والعشرين. وتميّزت هذه الحرب بطبيعتها الهجينة التي جمعت بين القتال العسكري، والمواجهة الفكرية، والصمود المجتمعي، فضلا عن تحديات النزوح، وانهيار البنى التحتية، وتداعيات الانقسام السياسي.
لقد مكّن هذا النصر الدولة العراقية من استعادة سيادتها على كامل أراضيها، وأعاد بناء جسور الثقة بين المواطن والدولة، وأثبت للعالم أن العراق يمتلك القدرة على استعادة زمام المبادرة مهما بلغت التحديات. لذلك، فإن استذكار هذا اليوم ليس طقسا احتفاليا، بل هو إعادة قراءة عميقة لدرس تاريخي أثبت أن الوحدة الوطنية تتفوق على جميع المخاطر.
الأهمية الاستراتيجية للانتصار
يمثّل الانتصار العراقي على تنظيم داعش أحد أهم التحولات الاستراتيجية في التاريخ العراقي الحديث، ليس فقط لأنه أنهى مرحلة من السيطرة الميدانية لمجاميع إرهابية خطيرة، بل لأنه أعاد تشكيل البيئة الأمنية والسياسية والاجتماعية في البلاد والمنطقة. فقد شكل دحر التنظيم في كانون الأول/ديسمبر 2017 محطة مفصلية أنهت أخطر تهديد واجهه العراق منذ 2003، وفتحت الباب أمام إعادة بناء الدولة وتعزيز سيادتها وترسيخ دور المؤسسات الأمنية , والذي تمثل بـــــــــ:
- استعادة السيادة الوطنية ووحدة الدولة
أعاد النصر على داعش للدولة العراقية سيطرتها على مساحات واسعة كانت تمثل تقريبا ثلث البلاد، بما فيها مدن ذات ثقل استراتيجي مثل الموصل والرمادي وتكريت. هذا الإنجاز أعاد رسم الخريطة السياسية والأمنية للعراق، وأكد قدرة الحكومة على بسط سيادتها على كامل أراضيها، وهو ما منحها قوة تفاوضية أكبر داخليا وخارجيا، وعزز ثقة المواطن بقدرات الدولة.
- الحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي
كان تمدد داعش يمثل تهديدا متعدد الأبعاد، يمتد من العراق إلى سوريا والشرق الأوسط وصولا إلى الأمن الدولي. وبالتالي فإن الانتصار العراقي ساهم في:
- منع التنظيم من إقامة “دولة” كانت ستشكل قاعدة لتصدير الإرهاب عالميا.
- قطع خطوط التمويل والتهريب عبر الحدود.
- الحد من تدفق المقاتلين الأجانب.
لقد مثل تحرير العراق من داعش خطوة أساسية في الحرب العالمية ضد الإرهاب، حتى إن قادة التحالف الدولي وصفوا المعارك في العراق بأنها كانت “العمود الفقري” لإنهاء مشروع داعش العسكري.
- تعزيز مكانة القوات المسلحة العراقية
أعاد النصر الاعتبار للمؤسسة العسكرية العراقية بعد سنوات من التحديات. فقد أصبح جهاز مكافحة الإرهاب نموذجا عالميا في حرب المدن، فيما أثبت الحشد الشعبي والشرطة الاتحادية والجيش العراقي قدرتهم على التنسيق والدفاع عن الوطن رغم الظروف الصعبة. هذا الإنجاز الاستراتيجي منح العراق قوة ردع فعلية أمام أي تهديدات مستقبلية.
- حماية البنية التحتية الحيوية
تزامن القتال مع تهديد داعش لحقول النفط، السدود، محطات الكهرباء، والمواقع الأثرية. وبالتالي فإن تحرير الأراضي لم يكن إنجازا جغرافيا فحسب، بل ساهم في حماية موارد الدولة ومنع التنظيم من التحكم بمصادر اقتصادية كان يمكن أن يستخدمها لتمويل عملياته وإدامة وجوده.
- إعادة التوازن الاجتماعي ومنع انهيار الدولة
كان مشروع داعش قائما على تفكيك المجتمع العراقي وإذكاء الانقسامات الطائفية. ولذلك فإن الانتصار على التنظيم ساهم بــــــــ:
- أعاد الاستقرار لملايين المواطنين النازحين.
- منع تفاقم التصدعات المجتمعية.
- أتاح إعادة إعمار المدن وإحياء مؤسسات الدولة المدنية.
ولهذا ، كان النصر ضرورة وجودية للحفاظ على الدولة العراقية ذاتها ووحدتها وتماسكها.
- تعزيز مكانة العراق الجيوسياسية
من خلال هزيمة تنظيم إرهابي عالمي، أثبت العراق نفسه كقوة مركزية في المنطقة. وهو ما منح السياسة الخارجية العراق ومكنها من بناء شبكة علاقات أوسع واعادة ترتيب علاقاتها الاقليمية والدولية ، كما عزز دورها في مبادرات التعاون الإقليمي والأمن الجماعي. فاصبح ينظر للعراق على انه شريك أساسي في مكافحة الإرهاب وليس ساحة صراع فقط.
الادوار الاستراتيجية للقوات المسلحة العراقية
- جهاز مكافحة الارهاب
يُعد جهاز مكافحة الإرهاب القوة الأكثر تدريبا واحترافا في الحرب ضد داعش، وقد شكلت قوات الجهاز رأس الحربة في أغلب المعارك، خاصة في البيئات الحضرية المعقدة. ويمكن تحديد أبرز أدواره بـــــ:
- تنفيذ الهجمات الأولى لاختراق خطوط داعش في المدن الكبرى
- تحرير الأحياء الأكثر تعقيدا وكثافة سكانية، بفضل قدراته العالية على القتال داخل المدن .
- تنسيق العمليات المشتركة بين القوات الجوية والتحالف الدولي عبر توجيه الضربات الدقيقة.
- تقليل الخسائر بين المدنيين عبر الاعتماد على تكتيكات عسكرية واستخبارات ميدانية.
- الحشد الشعبي ( الاستجابة السريعة )
عندما حدث الاختراق الارهابي توال تقدم القوات الارهابية وسيطرتها على اجزاء واسعة بشكل سريع جدا , والذي لم يكن نتيجة خسارة معركة بل كان انهيارا كاملا بالعقيدة العسكرية , النقطة واللحظة التي اعادت التوازن واوقفت التقدم الارهابي كان فتوى المرجعية المقدسة بحمل السلاح لكل قادر والوقوف بوجه هذه الهجمة , فكانت الاستجابة السريعة لفتوى المرجعية المقدسة نقطة تحول استراتيجية في الحرب على الارهاب ليس في العراق فحسب بل في العالم ككل والذي كان يقف متفرجا وعاجزا امام تقدم المجاميع الارهابية , لقد جاء الحشد الشعبي كتعبير مباشر عن الإرادة الشعبية التي تحولت إلى قوة قتالية منظمة. وتمثل دوره بــــــ:
- سدّ الفراغ وتحويل الأزمة إلى قوة
عندما سقطت المدن بيد داعش، لعب الحشد دور القوة البديلة التي منعت انهيار الجبهة الداخلية، وأمنت خطوط الدفاع الأولى حتى استعادة الجيش لتوازنه .
- تحرير المدن والطرق الاستراتيجية
لقد شارك الحشد الشعبي في تحرير محافظات صلاح الدين، ديالى، الأنبار، والموصل وا . كما كان دوره حاسما في تأمين طرق الإمداد التي كانت شرطا للنصر.
- العمل الإنساني والدعم المجتمعي
لم يقتصر دور الحشد الشعبي على القتال، بل شمل حماية النازحين وتأمين الإغاثة الإنسانية، مما جعل الحشد قوة متعددة الأدوار وذات حضور اجتماعي وإنساني. تبقى تضحيات الحشد الشعبي واحدة من الذاكرة الوطنية في الحفاظ على سيادتها وبقاءها .
- التضحيات الواسعة
قدّم الحشد الآلاف من الشهداء والجرحى ، الذين خرجوا من منازلهم واعمالهم الى الجبهة مباشرة من الراحة والامن الى الخطر بدون تدريب او استعداد مسبق , فكان لذلك أثر كبير في ترسيخ الذاكرة الوطنية المشتركة باعتباره قوة ضحت دفاعا عن وحدة العراق .
- أثره الاستراتيجي
ساهم الحشد الشعبي في تحقيق التفوق العددي والميداني، ومنح الدولة قدرة على استعادة السيطرة على مساحات واسعة بسرعة.
- الجيش العراقي والشرطة الاتحادية
عاد الجيش العراقي بهيبته ودوره الوطني بعد سنة 2014، وأصبح العمود الفقري في عمليات التحرير. و تمثلت أبرز أدواره بـــــ :
- تنفيذ عمليات واسعة للحركة والمناورة في المناطق المفتوحة (صلاح الدين، الأنبار، نينوى)
- فتح محاور رئيسة لاقتحام المدن، وتطهير القرى والقصبات.
- توفير الإسناد المدفعي والدروع للقوات التي تخترق العمق.
- التنسيق بين القواطع الثلاثة (الجيش، الشرطة الاتحادية، مكافحة الإرهاب).
- إدارة العمليات الكبرى على مستوى الفرق والألوية.
- أثره الاستراتيجي حيث لعب الجيش دورا حاسمً في استعادة الدولة لسيادتها على الأراضي التي احتلها التنظيم ، وإعادة تشكيل هيبة المؤسسة العسكرية وعقيدتها .
أما الشرطة الاتحادية فتميزت ادوارها بـــــ:
- فلقد كانت الشرطة الاتحادية قوة قتالية رئيسة في المناطق الحضرية، خاصة في الجانب الأيمن من الموصل.
- القتال داخل المدن المكتظة بالسكان، خاصة في الأحياء التي تتطلب قوة نارية متوسطة.
- تحرير أحياء الموصل القديمة بالتنسيق مع الرد السريع.
- ملاحقة خلايا داعش في المدن المحررة عبر وحدات النخبة
- السيطرة على المواقع الحيوية بعد التحرير (الجسور، المراكز الحكومية).
لقد ساهمت الشرطة الاتحادية في تسريع الحسم داخل المدن، وتقليل الضغط على جهاز مكافحة الإرهاب
لقد كان لتحرير المدن التي احتلها تنظيم داعش الارهابي رسالتان مهمتان هما
- رسالة التحرير — إرادة القوة
ومثّلتها القوات المسلحة العراقية بكل تشكيلاتها وصنوفها ، وهي رسالة استعادة الأرض والدولة والهيبة.
- رسالة الصمود — إرادة البقاء
وحملها المواطنون الذين عاشوا تحت الاحتلال الداعشي ، فصمود العائلات، وتمسّكها بحياتها وانتمائها، وحفاظها على قيمها، شكل عنصرا أساسيا في ديمومة الروح الوطنية.
وحين التقت إرادة التحرير مع إرادة الصمود، ولدت لحظة النصر. لقد كان اندماج الجيش وجهاز مكافحة الإرهاب والشرطة والحشد الشعبي مع المجتمع نموذجا فريدا لاستعادة الدولة من الداخل بعد ان فشلت كل محاولات زعزعتها وانهائها .
استذكار الشهداء — الذاكرة بوصفها عقدا وطنيا
لا يمكن كتابة تاريخ هذا النصر دون الاحتفاء بدماء الشهداء الذين صنعوا فجر العراق الجديد.إن استذكار الشهداء ليس طقسا رمزيا ، بل هو عهد أخلاقي بحماية القيم التي استشهدوا من أجلها:
الوطن، الوحدة، والكرامة.
كما يشكل الجرحى الصفحة الحية من ذاكرة التحرير, فهم الذين دفعوا أثمانا جسدية باقية، وهم عنوان التضحية المستمرة التي يجب أن تُقابل برعاية تكافئ حجم ما قدّموه.
اخيرا : علينا ان نعلم إن النصر على داعش هو بداية الطريق وليس نهايته.فالانتصار العسكري، مهما كان عظيما، يمكن أن يُفقد قيمته إذا لم يتحول إلى انتصار سياسي واجتماعي وثقافي. وان التحدي الحقيقي أمام العراق اليوم هو:
- تحصين المجتمع من الفكر المتطرف.
- بناء دولة قوية عادلة.
- تعزيز الهوية الوطنية .
- منع تكرار الظروف التي سمحت بظهور داعش.
ان يوم النصر في 10 كانون الأول لم يكن مجرد إعلان عسكري، بل كان لحظة استعادة العراق لذاته ولسيادته ولثقته بقدراته, حيث أثبت العراقيون، عبر تضحياتهم وصمودهم، أن إرادة الأمة أقوى من كل محاولات التقسيم والتهديد والانهيار. واليوم، يقف العراق أمام تحدّي تحويل هذا النصر من حدث تاريخي إلى قاعدة لبناء دولة عادلة وقوية. ويبقى الحفاظ على روح التضحية والوحدة مسؤولية وطنية عابرة للأجيال. فالنصر لا يكتمل بالتحرير وحده، بل بإرادة دائمة لصناعة المستقبل.
فلنحفظ هذا النصر كما نحفظ أسماء شهدائنا , فالأمم التي لا تصون ذاكرتها تُسلب منها انتصاراتها، لقد كتبت ذاكرة التحرير بدماء لا يمكن محوها، وواجبنا أن نورثها للأجيال كي لا يعود الظلام يوما إلى أرضنا.


