السياسة والقانون ليسا مجرد قواعد، بل هما صراع دائم بين ما هو ممكن وما هو عادل. فالقانون يعكس العدالة والنظام، بينما السياسة تمثل فن المساومة والمصلحة.
وجود مبعوث أميركي في العراق يختبر هذا التوتر: بين النص القانوني والسيادة الوطنية من جهة، وبين النفوذ والمقايضة السياسية من جهة أخرى.
قراءة هذا الملف تتطلب تأملًا في حدود الدولة وسيادتها، وفهمًا لكيفية استخدام القانون أحيانًا كأداة انتقائية للمصلحة السياسية.
هذا الجدل لا يمكن اختزاله في ثنائية القبول أو الرفض، بل يستدعي قراءة نقدية أعمق تتقاطع فيها قواعد القانون العراقي مع فلسفة المقايضة السياسية التي تحكم سلوك الفاعلين المحليين والدوليين.
أولًا: الإطار القانوني وغياب الصفة الدبلوماسية
وفقًا لأحكام القانون الدولي والعراقي، فإن الصفة الدبلوماسية ليست مسألة شكلية، بل هي أساس الحصانة والشرعية الوظيفية.
مبعوث ترامب إلى العراق لا يحمل صفة دبلوماسية معتمدة، ولم يُعيّن عبر القنوات التقليدية (سفير أو قائم بالأعمال أو مبعوث باتفاق حكومي ثنائي)، ما يعني أنه لا يتمتع بحصانة دبلوماسية وفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1961.
ويزداد التعقيد القانوني حين يُؤخذ بعين الاعتبار أن المبعوث يحمل الجنسية العراقية، وأن نشاطه السابق في الولايات المتحدة كان مرتبطًا بزراعة وبيع الحشيش والممنوعات — أفعال تُعد جرائم يُعاقب عليها القانون العراقي رسمياً.
فوفق قانون مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية رقم 50 لسنة 2017، تعتبر زراعة أو إنتاج أو تجارة المخدرات والممنوعات نشاطات جنائية يعاقب عليها بدرجات شديدة تصل إلى السجن والحرمان من الحقوق، ولا تُستثنى منها الحصانات السياسية أو الوظيفية غير الرسمية، خصوصًا حين يتعلق الأمر بمواطن عراقي يخضع للاختصاص القضائي الوطني أينما وجد داخل الإقليم.
بذلك، يكون المبعوث الأميركي — رغم مكانته الرسمية في السياسة — محكومًا بنصوص القانون العراقي التي تجرم التعامل في المواد المخدرة والممنوعات، وهو ما يعيد فتح السؤال: هل يمكن لفرد من أصول عراقية يعمل في نشاطات يُجرّمها القانون أن يمارس دورًا سياسيًا في العراق من دون أي مساءلة قانونية؟
ثانيًا: الثغرات القانونية بوصفها أداة سياسية
رغم وضوح هذه الثغرات القانونية، لم تتجه الأطراف المعترضة إلى تفعيل المسار القانوني المؤسسي، بل اكتفت بخطاب سياسي تصعيدي يطالب بالطرد أو يلوّح بالتهديد.
هذا السلوك يطرح تساؤلًا جوهريًا: لماذا يُهمل القانون حين يكون أداة حاسمة، ويُستبدل بخطاب شعبوي أو تهديدي؟
الإجابة تكمن في أن القانون، في هذه الحالة، لا يُستخدم كمرجعية سيادية، بل يُستدعى أو يُهمَل وفق حسابات المصلحة.
فتحريك دعوى قانونية حقيقية يعني حسمًا نهائيًا قد لا يخدم بعض القوى التي تفضّل إبقاء الملف في منطقة رمادية قابلة للمساومة.
ثالثًا: فلسفة المقايضة السياسية
يمكن قراءة هذا المشهد من خلال مفهوم المقايضة السياسية، حيث لا يُنظر إلى المواقف العلنية بوصفها غايات بحد ذاتها، بل كرسائل تفاوضية.
فرفع الأصوات ضد المبعوث، دون الذهاب إلى أقصى ما يتيحه القانون، يشير إلى محاولة إرسال إشارات غير مباشرة مفادها:-
نحن نملك أوراق ضغط، لكننا مستعدون لخفض التصعيد مقابل ضمانات أو تفاهمات.
في هذا السياق، يتحول المبعوث الأميركي من كونه موضوعًا للنزاع إلى وسيط غير معلن للمقايضة: غضّ نظر عن ملفات معينة أو إعادة ترتيب علاقات مع قوى مهددة بالإقصاء من العملية السياسية، مقابل القبول الضمني بوجوده ونشاطه.
رابعًا: الدولة بين السيادة والتكيّف
هذا النمط من السلوك يعكس إشكالية أعمق تتعلق بطبيعة الدولة في العراق، حيث تُدار السيادة أحيانًا بمنطق التكيّف لا بمنطق القانون.
فالدولة التي تمتلك أدوات قانونية واضحة لكنها تتردد في استخدامها، إنما تكشف عن هشاشة في احتكار القرار، وتفتح المجال أمام الفاعلين الخارجيين للتعامل مع الداخل العراقي بوصفه ساحة تفاوض لا منظومة قانونية مكتملة.
إن الصراع حول مبعوث ترامب في العراق، إذ يُطرح كقضية سياسية بامتياز، يكشف في جوهره عن أمرين متوازيين:
- ضعف تطبيق القانون على الجميع — حتى بالنسبة لأشخاص كان لهم نشاطات مخالفة صريحة نصوص التشريعات الجنائية العراقية على غرار جرائم المخدرات والممنوعات؛
- استعداد بعض القوى السياسية لاستغلال هذا الضعف كرافعة تفاوضية.
الخلاصة
إن الجدل حول مبعوث ترامب إلى العراق لا يدور في جوهره حول شخص أو منصب، بل حول كيفية إدارة العلاقة بين القانون والسياسة.
فحين يُستبدل تطبيق القانون بمنطق المقايضة، تتحول السيادة إلى ورقة تفاوض، وتفقد الدولة قدرتها على رسم حدود واضحة لتدخل الخارج.


