تُعدّ الشفافية المالية إحدى أهم ركائز الحكم الرشيد، إذ ترتبط بشكل مباشر بقدرة الدولة على إدارة المال العام بكفاءة، وبثقة المواطنين في مؤسساتها، وبإمكانية ممارسة الرقابة البرلمانية والمجتمعية على الأداء الحكومي. ولا يمكن لأي نظام سياسي يدّعي الديمقراطية أو يسعى لترسيخ أسس الحكم الرشيد أن يتجاهل حق الجمهور في الاطلاع على حقيقة الأرقام والموازنات والإنفاق والإيرادات، لأن المال العام هو ملك الشعب، وإدارته مسؤولية مشتركة بين الحكومة والمجتمع.
أولاً: مفهوم الشفافية المالية وأهميتها في الحكم الديمقراطي
تعني الشفافية المالية نشر المعلومات المالية الدقيقة، الكاملة، وفي الوقت المناسب، عن إدارة الإيرادات، والإنفاق، والديون، والالتزامات الحكومية. وترتكز الشفافية المالية على أربعة عناصر أساسية:
- وضوح المعلومات المالية وسهولة الوصول إليها.
- اتساق الأرقام ودقتها وفق المعايير الدولية (IPSAS – IMF Fiscal Transparency Code).
- كشف البيانات الخاصة بالأداء المالي وتنفيذ الموازنة.
4.إتاحة المعلومات للبرلمان، وديوان الرقابة المالية، ومؤسسات المجتمع المدني.
وفي النظم الديمقراطية، تُعدّ هذه الشفافية شرطًا لشرعية السلطة، لأن المواطن لا يستطيع تقييم أداء الحكومة أو محاسبتها ما لم تكن البيانات المالية متاحة وغير مضللة.
ثانيًا: مخاطر الكتمان والسرية في إدارة المال العام
عندما تتراجع الشفافية وتُحجب البيانات أو تُشوَّه، تتولد مخاطر سياسية واقتصادية عميقة، منها:
1.تضليل صانع القرار وغياب التخطيط الرشيد
القرارات المالية تستند إلى البيانات. وعندما تكون الأرقام غير دقيقة أو غير مكتملة، يصبح التخطيط الاقتصادي مبنيًا على أوهام، وتفشل البرامج الحكومية في تحقيق أهدافها.
2.انتشار الهدر والفساد المالي
إخفاء المعلومات هو البيئة المثالية للفساد. فالسرية تسمح بتمرير العقود غير القانونية، وتضخيم الموازنات، وإخفاء التجاوزات دون رقابة.
- تعطيل دور البرلمان والرقابة المستقلة
لا يمكن للبرلمان أو الأجهزة الرقابية (مثل ديوان الرقابة المالية وهيأة النزاهة) أداء واجبها عند مواجهة أرقام غير صحيحة أو ناقصة، فتتحول الرقابة إلى إجراء شكلي غير فعال.
- انهيار الثقة بين المواطن والدولة
المواطن الذي يشعر بأن الحكومة تخفي عنه الحقيقة يفقد الثقة بوعودها وبالتزاماتها، الأمر الذي يضعف المشاركة الانتخابية ويغذي السخط الاجتماعي.
-
تعطل آليات المساءلة العامة
لا مساءلة بلا معلومة؛ وعندما تصبح المعلومات مضللة، يفقد المجتمع القدرة على محاسبة المسؤولين، وتُفقد الديمقراطية أحد أعمدتها الأساسية.
ثالثًا: الحالة العراقية… أزمة شفافية مالية مُقلِقة..
شهد العراق في السنوات الأخيرة تراجعًا ملحوظًا في تبني مبادئ الشفافية المالية الدولية. وقد انعكس ذلك في عدّة مؤشرات، أبرزها:
1.بيانات الموازنة المفتوحة المنشورة على موقع وزارة المالية
رغم الإعلان عن “الموازنة المفتوحة”، فإن البيانات المنشورة تتصف بما يلي:
- عدم دقة الكثير من الأرقام مقارنة بالجداول الفعلية الملحقة بقانون الموازنة.
- غياب تفاصيل الإنفاق الحقيقي على مستوى المحافظات والقطاعات.
- عدم تحديث المنصّة بشكل دوري رغم التغييرات المالية الجوهرية خلال السنة.
- اختفاء بيانات مهمة مثل الالتزامات المتراكمة، والمناقلات بين الأبواب، وصافي التمويل.
2.عجز الوزارة عن توفير بيانات قابلة للتدقيق
تفتقر وزارة المالية إلى نشر تقارير ربع سنوية وسنوية دقيقة عن التنفيذ الفعلي، وهو أمر يخالف المعايير الدولية للشفافية.
3.التناقض بين خطط الحكومة والأرقام المنشورة، فالاعلام الرقمي يظهر عدم اتساق بين التصريحات الحكومية ومخرجات البيانات المالية المنشورة، الأمر الذي يجعل الرقابة المجتمعية والبرلمانية شبه مستحيلة.
4.غياب التقارير التحليلية للإنفاق
لا توجد بيانات تفصيلية حول:
- كلفة البرامج الحكومية.
- نسب الإنجاز الفعلية.
- مؤشرات الأداء المالي
(KPIs).
-
كلفة الفرصة الضائعة نتيجة سوء التخصيص.
وهذا ينعكس مباشرة على قدرة الدولة في مراقبة العدالة التخصيصية وتوزيع الموارد بين المحافظات.
رابعًا: لماذا تُعدّ الشفافية المالية ضرورة وليست خيارًا؟
الشفافية ليست مجاملة سياسية، بل هي شرط للحوكمة، لأنها:
- تمنع الفساد.
- تضمن الاستخدام الأمثل للمال العام.
- تعزز ثقة المستثمرين.
- تحمي الحكومة من الاتهامات وتُسهّل الدفاع عن قراراتها.
- تمنح البرلمان والمواطن القدرة على محاسبة أصحاب القرار.
في الدول الديمقراطية الحديثة، تُعدّ الشفافية معيارًا لتقييم كفاءة الحكومة وليس مجرد التزام أخلاقي.
خامسًا: خارطة طريق لتعزيز الشفافية المالية في العراق
لإعادة بناء منظومة مالية قائمة على الشفافية، يمكن اعتماد الخطوات التالية:
-
تبني معايير صندوق النقد وIPSAS بالكامل في التقارير المالية.
- إطلاق منصة موازنة مفتوحة حقيقية تشمل:
- مستويات تنفيذ الإنفاق يوميًا أو أسبوعيًا.
- عقود الدولة والمناقصات.
- المبالغ المحوّلة للمحافظات.
- نشر تقارير تنفيذ الموازنة ربع سنويًا وفق قانون الإدارة المالية رقم (6) لسنة 2019.
- تعزيز دور ديوان الرقابة المالية ومنحه صلاحيات الوصول إلى قواعد بيانات الوزارة.
- إشراك المجتمع المدني والجامعات في تحليل البيانات المالية.
- إصدار “موازنة المواطن” كتقرير سنوي بلغة مبسطة، كما تفعل أكثر من 60 دولة.
- نشر بيانات الإيرادات النفطية وغير النفطية بالتفصيل.
إن استمرار الكتمان والسرية في إدارة المال العام يشكل خطرًا على مبدأ الديمقراطية ذاته، لأن الحكم الديمقراطي يفقد أحد ركائزه الأساسية عندما يُمنع المواطن من معرفة كيف تُدار امواله وموارده. والحالة العراقية مثال واضح على أن غياب الشفافية المالية ليس مجرد خلل إداري، بل هو تهديد مباشر للمساءلة والحوكمة والاستقرار الاقتصادي.
ولا يمكن للعراق أن يتقدم نحو إدارة مالية رشيدة وعدالة تخصيصية حقيقية ما لم يعِد بناء منظومة شفافية قائمة على نشر الحقيقة، لا على تجميل الأرقام.


