رسم السياسة المحاسبية في العراق بين التوحيد والتنوع

رسم السياسة المحاسبية في العراق بين التوحيد والتنوع
يحلّل النص مسار العراق بين توحيد النظام المحاسبي واعتماد المعايير الدولية، مبرزًا نهجًا هجينًا يجمع الرقابة الحكومية مع متطلبات الشفافية، مع التأكيد على الحاجة لإصلاح مؤسسي ومهني يضمن تطبيقًا فعّالًا لهذا التحوّل...

يشكّل النظام المحاسبي أحد الركائز الأساسية في بناء النظام المالي لأي دولة، إذ يحدد الإطار الذي تُعدّ بموجبه البيانات والتقارير المالية. وتواجه اغلب الدول النامية حالياً تحديًا جوهريًا في اختيار المسار المناسب لتنظيم سياساتها المحاسبية ما بين انموذج التوحيد القائم على اعتماد نظام محاسبي موحد تطبقه جميع الوحدات الاقتصادية، أو  انموذج التنوع المستند الى الاعتماد الكلي على المعايير المحاسبية الدولية (IAS/IFRS) لتوجيه واختيار الممارسة المحاسبية الملائمة في بيئاتها المحلية.

أولاً: سياسة التوحيد المحاسبي (اعتماد النظام المحاسبي الموحد)

يميل هذا الاتجاه إلى تبني نظام محاسبي موحد تضعه الدولة، يطبق على جميع الشركات والوحدات الاقتصادية، سواء كانت عامة أم خاصة.

ويهدف هذا النموذج إلى:

  • ضمان التجانس والاتساق في القوائم المالية لتسهيل الرقابة والتخطيط المركزي.
  • تبسيط المتطلبات القانونية وتسهيل عملية إعداد الموازنات والحسابات القومية.
  • دعم السيطرة الحكومية في الاقتصاد الموجه أو المختلط.

وقد انتشر هذا النموذج في الدول النامية التي تأثرت بالنهج الاشتراكي أو بالتخطيط المركزي، مثل مصر والعراق وسوريا في العقود الماضية، حيث ارتبط التنظيم المحاسبي فيها بدور الدولة الاقتصادي والإداري.

ثانياً: التنوع المحاسبي (الاعتماد على المعايير الدولية في تصميم وتشغيل النظم المحاسبية)

في المقابل، تتجه بعض الدول النامية إلى تبنّي المعايير المحاسبية الدولية بدلاً من النظام الموحد، استجابةً لمتطلبات العولمة، وجذب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز الشفافية في التقارير المالية.

ويمكّن هذا الاتجاه الوحدات الاقتصادية من المرونة في اختيار السياسات والممارسات المحاسبية المناسبة لطبيعتها، لكنه يتطلب بيئة مؤسسية متطورة، ومهنيين ذوي كفاءة عالية، ونظام رقابي مهني مستقل.

ثالثاً: تأثير طبيعة النظام السياسي والاقتصادي في تحديد السياسة المحاسبية

يتأثر اختيار النموذج المحاسبي السائد في الدول النامية إلى حدٍّ كبير بـ:

  • النظام السياسي: فالدول ذات التوجه المركزي أو السلطوي تميل إلى فرض نظام محاسبي موحد يخدم أغراض الدولة الرقابية، بينما الدول ذات النظم الديمقراطية والاقتصاد الحر تميل إلى تبنّي المعايير الدولية وتفويض المنظمات المهنية بتنظيم المهنة.
  • النظام الاقتصادي: في الاقتصاد الاشتراكي أو المختلط يُفضل التوحيد لتحقيق الرقابة على الموارد العامة، أما في الاقتصاد الرأسمالي ( اقتصاد السوق الحر/المفتوح) فيُفضَّل التنوع لضمان التنافسية وتلبية متطلبات الأسواق المالية( أسواق رأس المال).

إنّ المفاضلة بين سياستي التوحيد والتنوع ليست مسألة تقنية فحسب، بل هي قرار سياسي-اقتصادي يعكس فلسفة الدولة في إدارة اقتصادها. ولذا فإن الاتجاه الأمثل في الدول النامية هو النموذج المزدوج الذي يوازن بين توحيد الأسس والمبادئ المحاسبية العامة لضمان الرقابة والشفافية، وبين السماح بالتنوع في الممارسات المحاسبية في إطار المعايير الدولية، وبما يتناسب مع خصوصية البيئة الوطنية.

خلطة العطار ..

اولاً: الطابع الهجين للتنظيم المحاسبي

إنّ نيه العراق التوجه نحو اعتماد نظام محاسبي (موحد) صُمم وفق (المعايير ) الدولية (IFRS/IPSAS) في العام القادم 2026 يمثل ما يمكن وصفه بـ”الأنموذج الهجين” في تنظيم السياسات المحاسبية، إذ يجمع بين خصائص السياستين المتناقضتين التوحيد والتنوع المحاسبي:

  • من جهة، يتبنى مبدأ التوحيد الذي ينسجم مع طبيعة الدولة الريعية ومركزية القرار المالي، وضرورة إخضاع الوحدات الاقتصادية للرقابة الحكومية.
  • ومن جهة أخرى، يستلهم مبادئ المعايير الدولية التي تركز على اتاحة التنوع في سياسات الإفصاح والشفافية، وتعتمد بشكل كبير على الاعتماد على الحكم الشخصي المهني بدلاً من الالتزام بالنظم والتعليمات والقواعد المحاسبية الصارمة.

هذا التداخل هو ما يمكن وصفه بخلطة العطار في تنظيم السياسة المحاسبية والذي نستطيع ان نصفه بكونه محاولة عقلانية لا تخلو من مخاطرة لاحداث انتقال تدريجي من بيئة تنظيمية محاسبية مغلقة قائمة على القواعد والتعليمات الصارمة ، إلى بيئة مفتوحة تعتمد على المبادئ والمعايير المهنية، دون إحداث صدمة مؤسسية أو تشريعية.

ثانياً: الدوافع الاقتصادية والسياسية

يُفسَّر اعتماد هذا الخيار المزدوج في السياق العراقي:

اقتصاديًا: العراق اقتصاد ريعي متحوّل يسعى للاندماج في الاقتصاد العالمي، وجذب الاستثمارات، وإصلاح المالية العامة، وهو ما يتطلب مواءمة النظام المحاسبي الموحد مع متطلبات تطبيق معايير IFRS وIPSAS.

سياسيًا وإدارياً: ما زالت الدولة مركزية في إدارة الموارد والرقابة، ولا تزال المؤسسات المهنية (كجمعية المحاسبين والمدققين) محدودة التأثير مقارنة بالأجهزة الحكومية، مما يجعل التوحيد الإداري أداة ضرورية لحوكمة الإصلاح.

وبالتالي، فـ”خلطة العطار” ليست مجرد تركيبة غير متجانسة، بل تعبير عن مرحلة انتقالية في بناء النظام المحاسبي للدولة.

ثالثاً: المخاطر المحتملة:

هذا المنهج المزدوج في رسم السياسة المحاسبية يحمل تحديات، منها:

  • تضارب المرجعيات (القانونية والمهنية) عند التطبيق العملي.
  • ضعف الكفاءة المهنية في تفسير وتطبيق المعايير الدولية ضمن نظام موحد مركزي.
  • احتمال فقدان المرونة في معالجة العمليات الاقتصادية المعقدة التي تتطلب حكمًا مهنيًا.

وهنا يظهر خطر أن يتحول النظام “الهجين” إلى نظام شكلي يتزيّن بمصطلحات IFRS دون أن يعكس جوهرها.

رابعاً: الرؤية الأكاديمية المقترحة

من منظور أكاديمي، يمكن القول إنّ العراق يسير باتجاه تحقيق تحديث تدريجي للنظام المحاسبي الوطني عبر المزج بين:

  • التوحيد المحاسبي الذي يضمن الشمول والرقابة والانضباط المالي،
  • والتنوع المحاسبي الذي يعزز جودة اعداد التقارير والإفصاح والمواءمة مع المعايير الدولية.

وهذا المسار يمكن أن يكون انموذجًا إصلاحيًا مميزًا إذا ما تم تأطيره ضمن خطة استراتيجية واضحة تشمل:

  1. تطوير القدرات المهنية.
  2. تحديث القوانين بما ينسجم مع معايير IFRS/IPSAS.
  3. تفعيل الدور المهني المستقل لنقابة المحاسبين والمدققين ولجمعية المحاسبين والمدققين في مجالي التدريب والرقابة على التطبيق.

خلاصة الامر:

ما اسميناه ب “خلطة العطار” هو في الواقع تعبير عن مرحلة انتقالية ذكية – لكنها تحتاج إلى حوكمة مؤسسية ومهنية دقيقة كي لا تتحول إلى “تناقض تنظيمي”.

فالهدف ليس مجرد الجمع بين سياستي التوحيد والتنوع المحاسبي، بل يجب العمل على تحقيق تكامل وظيفي بينهما، بمعنى أن يوحد النظام الإطار النظري/المفاهيمي ويترك للمهنة حرية استخدام الحكم الشخصي في اختيار التطبيقات والممارسات والاجراءات المحاسبية الملائمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *