بعد ان اقر مجلس الامن الدولي قرار وقف الحرب في غزة يوم امس ، يصبح السؤال الملح الآن : الى اين تسير الأمور، وما هي الاحتمالات، وما هي النتائج ؟
دعوني احاول رغم مئات المتغيرات، ورغم ان ما يجري في السر اكبر كثيرا مما يجري في العلن …ورغم قصر الوقت المتاح للتفكير:
أولا: ينص القرار على انشاء ” قوة دولية مؤقتة لتحقيق الاستقرار في قطاع غزة”:
وطبقا لمفهوم “الاستقرار في غزة” فان الامر سيسير نحو احتمالات نستعرضها تباعا :
أ- ان توافق المقاومة على نزع سلاحها وحل تنظيماتها العسكرية، وقد يترتب على ذلك
1- احتمال نشوب خلافات بين تنظيمات المقاومة حول هذه النقطة او حول كيفية مواجهتها
2- إذا وافقت المقاومة على التسليم ، ستقوم اجهزة السلطة التي سيتم تدريبها تحت اشراف مجلس ترامب للسلام باعتقالات وتشريد واغتيال لبعض رموز المقاومة ، او الضغط عليهم هم وعائلاتهم للبحث من مأوى خارج غزة.
3- احتمال ان تبدأ قوة الاستقرار الدولية في عمليات تفتيش واسعة برفقة المخابرات الامريكية والمصرية والاسرائيلية بالتفتيش التام على كل عنصر واستجوابه للتعرف على مخازن السلاح السرية والانفاق وطرق النقل السرية، وسيتم التركيز على الخبراء والمهندسين العسكريين…الخ.
ب- يلاحظ ان القرار لا يشير الى الضفة الغربية نهائيا ،رغم ان معدل عدم الاستقرار السياسي في الضفة الغربية بسبب العمليات العسكرية الاسرائيلية وهجمات المستوطنين هي طبقا لنماذج القياس الدولية 74.8% وهي ضمن اعلى 14 منطقة في العالم في عدم الاستقرار. وهذا الاغفال الواضح لعدم الاستقرار في الضفة الغربية يعني
1- استمرار الاستيطان والاعتقالات والتضييق في الضفة الغربية دون أية مساءلة
2- قد تعمل اسرائيل على انتزاع تعهد من تنظيمات المقاومة بوقف نشاطاتها في الضفة الغربية مقابل تيسير دخول المساعدات لغزة.
3- احتمال التركيز على غزة لخلق فصل تدريجي هادئ بين غزة والضفة لهدف محدد ساعود له بعد قليل.
ثانيا: انشاء مجلس سلام: سيقوم ترامب ومن معه –طبقا للقرار- بتشكيل مجلس السلام ، ويبقى هذا المجلس هو من يتولى الاشراف الى حين ” تُتم السلطة الفلسطينية برنامج اصلاحها على نحو مرض ، بما يمكنها من استعادة السيطرة على غزة بشكل آمن وفعال.” ، وهنا يجب ربط هذه المسألة بالشروط الواردة في القرار حول “تعريف اتمام السلطة برنامج اصلاحها” ، فطبقا للقرار هذا يعني:
أ- تتعاون قوة الاستقرار مع شرطة فلسطينية “مُدقق في افرادها”، والتدقيق يعني حرفيا ” ان لا يكون اي فرد ممن له صلة باي شكل من الاشكال بالمقاومة،على غرار فرق الشرطة الفلسطينية في الضفة الغربية ولجان التنسيق الامني، اي نسخ التنسيق الامني في الضفة وتكراره في غزة…ويلاحظ ان المشرف الميداني على ذلك اسرائيل ومصر،وهو ما يعني أن اي اعتراض اسرائيلي على اي شخص هو اعتراض قانوني، وهو ما يعني “تشريد آلاف رجال الشرطة الفلسطينية والمخابرات الفلسطينية والدفاع المدني من اي عنصر سبق له وان ارتبط باجهزة حماس المدنية او الشرطية.
ب- يجب ان تكون قيادة قوة الاستقرار الدولية مقبولة من مجلس السلام” بالتعاون مع اسرائيل ومصر، اي ان من حق اسرائيل الاعتراض على اي طرف يشارك في القوة، ومن الارجح ان تكون قوة الاستقرار من دول تناصب الحركات الاسلامية العداء الصريح ،ولها علاقات دبلوماسية مع اسرائيل .
ت- ان مهمة الشرطة الفلسطينية بالتعاون مع مجلس السلام هي :(الى جانب المهام التقليدية للشرطة) :
1- نزع السلاح بكافة اشكاله بما فيها الفردي من كل افراد المجتمع في غزة.
2- رعاية عمليات تدمير البنى التحتية للمقاومة من انفاق ومباني وخنادق وتحصينات ومصانع تسليح ومخازن ذخيرة ومكاتب وادارات وصناديق تمويل….الخ.
ذلك يعني ان كل نفقات “اجتثاث “المقاومة ستتحملها بشريا وماديا دول مجلس السلام دون ان تتكلف اسرائيل اية نفقات او اعباء.
ثالثا: استراتيجية اعادة الاعمار: طبقا لنصوص القرار ،فان السيناريو الارجح هو:
أ- عدم تسليم اية مبالغ او مواد لاية جهة كان لها صلة مباشرة او غير مباشرة مع المقاومة
ب- ستحدد اسرائيل اية مرافق او مباني يتم انشاؤها بانها ” عسكرية او غير عسكرية”، اي ان اسرائيل ستعيد هندسة الإعمار لغزة بكيفية يبقيها مفككة ومجزأة وبادارات محلية .
ت- ستحاول اسرائيل الاعتراض على اكبر قدر ممكن من مواد الاعمار تحت ذرائع امنية لتعطيل الاعمار لاطول فترة ممكنة لتشجيع فرص الهجرة الطوعية نظرا لقسوة الظروف.
رابعا: الانسحاب الاسرائيلي من القطاع: طبقا لنص القرار سيتم ما يلي:
أ- ربط الانسحاب الاسرائيلي بمحطات زمنية مرتبطة بعملية نزع السلاح ، اي ان اسرائيل باقية الى حين شعورها التام بان غزة ” تم اجتثاث المقاومة منها تماما “، وهو امر يعني ان زمن الانسحاب بيد اسرائيل لا بيد اية جهة اخرى.
ب- يستثنى من الانسحاب الاسرائيلي “محيط امني” داخل القطاع الى حين تأمين غزة من اي” تهديد ارهابي “، وهو ما يعني:
1- منطقة عازلة –تحدد مساحتها اسرائيل
2- هدف المنطقة العازلة التأمين من “اي تهديد ارهابي”، ومفهوم التأمين تحدده اسرائيل.
خامسا: لجنة فلسطينية تكنوقراطية تعمل تحت اشراف مجلس السلام ، وتنحصر مهمتها بالتحديد في الشأن اليومي لحياة المواطن الغزي.
الوجه الآخر للسيناريوهات:
من الضروري النظر الى الاحتمالات الاخرى في المشهد :
اولا: قضية حق تقرير المصير وانشاء الدولة: لقد وضع القرار مرجعيات له هي خطة ترامب(العشرين نقطة) والبيان السعودي الفرنسي ، اضافة لما ورد في القرار، ولكن لا بد من التنبه الى:
أ- خطة ترامب لا تشير الى دولة فلسطينية لا تصريحا ولا تلميحا.
ب- البيان السعودي الفرنسي ،يشير للدولة الفلسطينية “على اساس قرارات الامم المتحدة”، وهذا البيان تزامن تقريبا مع قرار الجمعية العامة باغلبية 142 دولة لحل الدولتين في سبتمبر 2025.
ذلك يعني اننا امام موقفين : احدهما ما ورد في قرار مجلس الامن الاخير والذي ينص على ” قد” يمهد لحق تقرير المصير ، بينما الثاني(الموقف الفرنسي السعودي ) يعتبرها اساسا ، ذلك يضعنا امام سيناريوهات عدة:
1- السيناريو المتسارع: اي ان تتم عملية غزة طبقا لقرار مجلس الأمن بتسارع يجعل فكرة الانتقال لموضوع الدولة الفلسطينية مطروح على اسرائيل، وهنا ستجد اسرائيل امامها ثلاثة سيناريوهات فرعية:
أ- القبول بحل الدولتين وهو ما يعني اضطراب اسرائيلي عميق قد يصل لحرب اهلية في ظل وجود ما يقارب ثلاثة ارباع المليون مستوطن في الضفة الغربية وسيطرة اليمين على السلطة.
ب- رفض انشاء الدولة ومواجهة تعقيدات كثيرة مع المجتمع الدولي ، وتراهن اسرائيل على قدرتها على تحمل اعباء هذه المواجهة.
ت- تعطيل طرح موضوع الدولة من خلال اطالة امد انهاء الامر في غزة عبر تعقيدات المساعدات والتشكيك في السلطة الفلسطينية والزعم بظهور خلايا مقاومة ..وكل الالاعيب المعروفة لاسرائيل، بهدف تقادم موضوع الدولة وطيه كما طوي غيره من المشروعات.
ث- السيناريو الاخير: هو ان تقبل اسرائيل بفكرة الدولة في غزة فقط ، وبهذا ستحاول امتصاص السخط الدولي من ناحية ،وتتجنب اضطرابها الداخلي من ناحية ثانية، وربما تسعى اسرائيل الى ترتيب هذا الامر بكيفية تقترب فيها من “دولة الريفيرا “التي اقترحها ترامب.
فإذا رتبنا السيناريوهات الفرعية الاربعة السابقة، فان افضلها لاسرائيل هو الأخير ، بخاصة إذا تدعم هذا السيناريو باحداث دولية كبرى تضع فلسطين في الظل مثل احتمالات نشوب نزاع حول تايوان، او اتساع المواجهة الروسية الاوروبية امتدادا للازمة الاوكرانية ،او نشوب مشكلات في الولايات المتحدة او بين امريكا ودول امريكا اللاتينية مثل فنزويلا او المكسيك، …الخ..
2- سيناريو التهجير: اي ان تعمل اسرائيل على تعقيد الظروف الحياتية في غزة عبر عرقلة واسعة ومتواصلة ومدروسة لابقاء عسر الحياة اليومية للمواطن الغزي في اسوأ الظروف لتدفعه نحو الهجرة ،والبحث من وراء ستار عن دول تستقبلهم.. وبنفس الوتيرة فان تسارع الاستيطان ،وتدمير المزارع والبيوت واستمرار الاعتقال في الضفة الغربية ، مع تقليص المساعدات الدولية للسلطة الفلسطينية سيدفع الى نوع من الهجرة بقدر أو آخر ،وهو ما قد يشكل تعميقا للياس بين الفلسطينيين .
3- اما السيناريو الثالث، فهو ان تتجدد اشكال المقاومة ،وتحدث تغيرات اقليمية لصالح المقاومة، مما سيجعل الضغط على اسرائيل اكثر لقبول فكرة الدولة الفلسطينية ، ورغم ضعف هذا السيناريو في ظل الحالة القائمة،لكن اسرائيل لا تستبعد من خياراتها “الجهة الخامسة” التي أولاها الجنرال مولتكة البروسي اهتمامه.
نعم انه افق ضيق ،وملبد بالغيوم، و”ربما”.


