من الميدان إلى المدن الكبرى: قراءة في مسارين سياسيين متوازيين لعثمان الشيباني وزهران ممداني

من الميدان إلى المدن الكبرى: قراءة في مسارين سياسيين متوازيين لعثمان الشيباني وزهران ممداني
يعرض النص تجربتين شبابيتين في العراق والولايات المتحدة، حيث يمزج عثمان الشيباني بين الشرعية الميدانية والعمل الاجتماعي، بينما يصعد زهران ممداني من النضال المدني إلى قيادة نيويورك، ليجسدا موجة سياسية عالمية يقودها الشباب....

في عالمٍ سياسيّ مضطربٍ تتسارع فيه التحوّلات وتتشابك فيه معاني القوة والتأثير، تبرز تجارب شبابية تحمل في سيرتها ما هو أعمق من مجرد فوز انتخابي. فقد عاد الشباب ليستعيدوا مساحات واسعة من المشهد العام، بعضهم قادم من الميدان الحربي، وبعضهم قادم من ميادين العمل المجتمعي في المدن الكبرى. وفي هذا السياق، يمكن أن تشكّل تجربة العراقي عثمان الشيباني وتجربة الأمريكي زهران ممداني نموذجين مختلفين تمامًا، لكنهما يلتقيان عند نقطة واحدة: القدرة على بناء حضورٍ سياسي لافت في لحظة فارقة.

التحولات القيادية الجديدة

ولد عثمان الشيباني في بيئة عراقية عرفَت الحرب بأشكالها المختلفة، ليلتحق بالدورة 61 في الشرطة ثم ينتقل سريعًا إلى القوات الخاصة، وهي واحدة من أهم التشكيلات التي واجهت تنظيم داعش على امتداد خط النار. هذا التحوّل من ضابط حديث التخرّج إلى مقاتل ضمن قوة نخبوية لم يكن مجرد وظيفة، بل كان جزءًا من تشكّل الشخصية. فالحرب لا تترك المشاركين فيها كما كانوا قبلها؛ إنها تفرض إعادة تعريف الذات، وتدفع الإنسان نحو إعادة ترتيب سلّم الأولويات، وتغرس فيه إحساسًا عمليًا بالمسؤولية يتجاوز الشعارات.

شارك الشيباني في معارك متعددة، بعضها في المدن، وبعضها في أرياف قاتلة، وبعضها في جبهات استنزاف طويلة. وهناك، حيث تختلط أصوات الاشتباك برائحة الغبار ونبض الخوف، تتشكل الشخصية القادرة على الصمود والقدرة على اتخاذ قرار سريع. لذلك بدا طبيعيًا أن يعود هذا الجندي الشاب إلى الحياة المدنية ومعه رصيد معنوي واضح. فالمقاتلون، في الوعي الشعبي العراقي، ليسوا مجرد موظفين في الخدمة العسكرية؛ إنهم أصحاب تجربة أخلاقية، ووجوه يعرفها المجتمع، ورجال دفعوا أثمانًا حقيقية من أجل بقاء البلاد.

ومن هذه الخلفية بالتحديد، اتّجه الشيباني نحو تأسيس مؤسسة خيرية تهتم بالأيتام وذوي الشهداء، في خطوة أعادت ربطه بالناس من زاوية اجتماعية وإنسانية. لم يكن العمل الخيري تقليديًا فحسب، بل كان امتدادًا لساحة الحرب التي تركها خلفه؛ فالأيتام وذوو الشهداء هم الواجهة المدنية لتضحيات الجنود، وبالتالي فإن خدمته لهم ليست خيارًا، بل وفاء لما بدأه على خطوط المواجهة.

أما دخول الشيباني إلى السياسة عبر بوابة ائتلاف دولة القانون، فكان تتويجًا لهذا المسار. هو ليس سياسيًا موروثًا ولا صاحب امتداد حزبي قديم، بل شاب ينتمي إلى جيل جديد يحاول مزج ثلاث هوّيات في شخصية واحدة: هوية رجل الأمن، وهوية رجل المجتمع، وهوية ممثل الناس تحت قبة البرلمان. هذا الثلاثي يمنحه جاذبية واضحة داخل بيئة انتخابية صارت تبحث عن الوجوه الشابة القادرة على تقديم شيء مختلف.

مقاربات سياسية متباينة

على الجانب الآخر تمامًا، يقف زهران ممداني كشاب تقدّمي صعد من قلب مدينة نيويورك، واحدة من أكثر مدن العالم تعقيدًا. لم يعرف ممداني ساحات حرب أو معارك حربية، لكنه خاض معارك من نوع آخر: معارك السكن، وحقوق المهاجرين، والفقر الحضري، والنقل العام، والعدالة الاجتماعية. صعوده لم يكن عبر بوابة المؤسسة الأمنية أو الحزبية التقليدية، بل من خلال تنظيم حملات شعبية تعتمد على آلاف المتطوعين الذين رأوا فيه صوتًا جديدًا قادرًا على كسر الشكل الكلاسيكي للسياسة الأمريكية.

ولد ممداني في بيئة متعددة الهويات، وعاش تجارب اجتماعية وثقافية مختلفة، مما سمح له بفهم عمق التحديات التي تواجه المهاجرين والفئات الهشة. وحين دخل المجلس التشريعي لولاية نيويورك أول مرة، كان خطابه صريحًا وراديكاليًا ومختلفًا عن السائد. ثم جاء حدثه الأكبر حين انتُخب عمدة لمدينة نيويورك، في مفاجأة سياسية لفتت انتباه الصحافة العالمية، بوصفه نموذجًا لسياسي شاب من خلفية مهاجرة ينجح في مدن تتنازعها القوى التقليدية.

بين الشيباني وممداني، تشترك التجربتان في عنصرين: الشباب والرغبة في التغيير، لكنهما تختلفان في كل ما عدا ذلك تقريبًا. الشيباني يتكئ على الشرعية الميدانية العسكرية، وممداني يتكئ على الشرعية المدنية الحضرية. الأول نشأ في بيئة ما بعد الحرب مع الإرهاب، والثاني نشأ في مدينة عالمية تواجه تحديات اجتماعية واقتصادية. الأول تحركه قضايا الأمن والخدمات والطبقات الضعيفة في مجتمع محلي، والثاني تحركه قضايا اللامساواة، والإسكان، وحقوق المهاجرين.

المقارنة بينهما ليست مقارنة في الأفضلية، بل في النموذج السياسي. فالتجربة العراقية تفرز سياسيين قادمين من خطوط المواجهة، بينما تفرز التجربة الأمريكية سياسيين قادمين من خطوط العمل المدني. كلا النموذجين يحمل نقاط قوته ونقاط ضعفه.

ما يجمع التجربتين هو أن السياسة دخلت مرحلة جديدة، مرحلة يحضر فيها الشباب بقوة، ليس بوصفهم مجرد ملحقين بجيل قديم، بل كفاعلين يمتلكون رؤى خاصة ومسارات مغايرة. صعود عثمان الشيباني في بغداد، وصعود زهران ممداني في نيويورك، هما وجهان لموجة عالمية: جيل يريد أن يكتب نسخته الخاصة من السياسة، كلٌ بحسب بيئته وواقع بلده.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *