السياسة المالية وفوضى نظام الإدارة المالية في العراق: لماذا تستمر الأزمة المالية؟ ولصالح من؟

السياسة المالية وفوضى نظام الإدارة المالية في العراق: لماذا تستمر الأزمة المالية؟ ولصالح من؟
يبيّن النص أنّ فوضى الإدارة المالية في العراق ناتجة عن ضعف التطبيق وتضارب التعليمات، ما يعرقل التدفقات النقدية والعدالة التخصيصية، ويدعو لاعتماد حساب نقدية مقيّدة ومعايير توزيع عادلة لضمان الشفافية وتنظيم التمويل وتحقيق إصلاح مالي فعّال...

تتزايد ملامح الاضطراب في نظام الإدارة المالية العامة في العراق عاماً بعد عام، رغم الإصلاحات المعلنة وتعدّد الحزم التنظيمية الملحقة بقانون الموازنة العامة الاتحادية. وما بين تعليمات جديدة، وضوابط معدّلة، ونماذج محاسبية مُحدّثة، تبرز مشكلة مركزية واحدة: العملية المالية لا تزال تعمل في بيئة فوضوية، يغيب عنها الاتساق المؤسسي والانضباط المالي، وتفتقر إلى أدوات العدالة التخصيصية.

لمن تُصنع هذه الفوضى؟ ولمصلحة من؟

يتساءل المختصون: هل الفوضى ناتجة عن ضعف تقني؟ أم أنها تخدم أطرافاً تستفيد من تعطّل الانسيابية في التدفقات النقدية؟

الحقيقة أن غياب التنظيم الرشيد في الإدارة المالية يخلق مساحة واسعة لـ:

  • تعطيل تنفيذ المشاريع الخدمية عبر حجز أموال الوحدات ذاتياً أو تأخير إطلاق التمويل.
  • فتح المجال للمناورات الإدارية التي تمنح أفضلية لجهات او محافظات على حساب أخرى بعيداً عن المعايير الموضوعية.
  • زيادة الاعتماد على التمويل المركزي وإضعاف القدرات الذاتية للمحافظات والوزارات في التخطيط المالي.
  • تعطيل مفاهيم الشفافية والمساءلة، لأن السيولة تصبح “سلطة” لا “أداة” للإنجاز.

إن استمرار هذه الفوضى لا يخدم إلا الأطراف المستفيدة من الإرباك، لأنها تتيح لهم مساحة للتحرك خارج قواعد العدالة، وتُضعف قدرة الجهات الرقابية على التقييم الموضوعي.

هل وزارة المالية عاجزة عن التكيّف؟

رغم تحديثات نظام الإدارة المالية رقم (6) لسنة 2019، ونماذج الموازنات، والتعليمات التنفيذية الصادرة كل عام، ما تزال وزارة المالية تواجه إشكالات جوهرية في:

 1.إدارة التدفقات النقدية (Cash Management)

إذ تشكو معظم وحدات الإنفاق من عدم انتظام التمويل الشهري، مما يعيق التزاماتها التعاقدية وبرامجها الخدمية.

 2.التكيّف مع تعدّد التعليمات والأنظمة

فالتعديلات المتكررة من دون بناء قدرات مؤسسية داخل الوزارة تولّد فجوة بين النص والتطبيق.

 3.عكس حصص الوحدات من إيراداتها الذاتية

وهي واحدة من أكثر الشكاوى تكراراً لدى وحدات الجباية، خاصة الدوائر الخدمية والمحافظات.

هذه الإشكالات تُمثّل خللاً في تطبيق الإدارة النقدية أكثر مما تمثل ضعفاً في التشريعات. فالنظام المالي العراقي متقدّم على الورق، لكنه متعثر في التطبيق.

الحل المقترح: اعتماد حساب النقدية المقيّدة (Restricted Cash Account)

لتجاوز حالة الارتباك، فإن وزارة المالية مطالَبة باعتماد حساب نقدية مقيّدة لكل وحدة حكومية لديها إيرادات ذاتية، بحيث تكون حصتها محفوظة من التدفقات الشهرية وغير قابلة للاستخدام في التغطية العامة لنفقات الحكومة.

أهداف الحساب المقترح:

  1. ضمان حقوق وحدات الجباية

من خلال تثبيت حصصها من الإيرادات وتقييدها في حساب مستقل داخل الخزينة، بما يمنع استخدامها لأغراض غير مخصصة.

  1. تنظيم التدفقات النقدية لوحدات الإنفاق

وضمان انتظام التمويل وفق آلية قائمة على الاستحقاق وحجم الأنشطة الفعلية للوحدة.

  1. زيادة الشفافية والعدالة

إذ يصبح بالإمكان تتبع كل دينار مخصّص للوحدات، ما يعزز الثقة المتبادلة ويقلل النزاعات المالية والإدارية.

  1. تقليل تراكم الالتزامات الحكومية

لأن وحدات الإنفاق ستعرف سقفها الحقيقي من التمويل، وتخطط لنفقاتها بناءً على التدفقات الفعلية لا التوقعات غير الواقعية.

دمج معايير العدالة التخصيصية في تمويل وحدات الإنفاق

لا يمكن لأي إصلاح مالي أن ينجح دون تبنّي معايير عدالة تخصيصية واضحة تضمن توزيع التمويل بين الوحدات وفق:

  • حجم السكان
  • فجوات التنمية
  • نسبة الفقر والحرمان
  • المساهمة بالإيرادات المحلية
  • احتياجات البنية التحتية
  • الالتزامات المالية المتراكمة

إن دمج هذه المعايير ضمن نظام التمويل سيعيد التوازن بين الوزارات والمحافظات، ويمنع التخصيص الارتجالي الذي كان يُمارس على أساس النفوذ والروابط السياسية.

إن استمرار فوضى الإدارة المالية في العراق ليس قدراً، بل نتيجة غياب نظام تمويل مبني على العدالة والانضباط المالي.

وقد آن الأوان لتطبيق إصلاحين جوهريين:

  1. اعتماد حساب النقدية المقيّدة في وزارة المالية لضمان حقوق وحدات الجباية وتنظيم التدفقات النقدية.
  2. اعتماد معايير العدالة التخصيصية في تمويل وحدات الإنفاق (الوزارات او المحافظات او الجهات غير المرتبطة بوزارة او الاقليم )لضمان توزيع عادل وشفاف للموارد.

إن إصلاح الإدارة المالية ليس مجرد خيار إداري، بل شرط أساسي لتعافي الدولة العراقية، ولعودة ثقة المواطن بالمؤسسات، ولمنع الهدر والازدواجية، ولتحويل المال العام من أداة نفوذ إلى أداة تنمية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *