ماذا تريد الولايات المتحدة من العراق؟ – تحديات النظام الدولي وتداعياته على السيادة العراقية

ماذا تريد الولايات المتحدة من العراق؟ - تحديات النظام الدولي وتداعياته على السيادة العراقية
يتناول النص خلل النظام الدولي وعجز مؤسساته، ويحلّل موقع العراق في التوازنات الإقليمية، مؤكداً أن السيادة الفاعلة تبدأ من الداخل عبر بناء مؤسسات قوية وهوية وطنية جامعة، ويتطلب ذلك سياسة خارجية عقلانية تعزّز استقلال القرار العراقي....

المقدمة: مأزق النظام الدولي وتأثيره على الاستقرار الإقليمي

منذ تأسيس منظمة الأمم المتحدة عقب الحرب العالمية الثانية، كان الهدف المعلن هو منع تكرار المآسي الكبرى عبر إيجاد مرجعية عالمية لحفظ السلم والأمن. غير أن التجربة التاريخية أثبتت أن النظام الدولي يعاني من خلل بنيوي عميق، تجلى في آلية حق النقض (الفيتو) التي منحت للدول المنتصرة في الحرب، فحوّلت الشرعية القانونية إلى رهينة المصالح الجيوسياسية. هذا التناقض بين القانون الدولي ومصالح القوى الكبرى جعل من الأمم المتحدة عاجزة عن إدارة الأزمات المستعصية، وأدى إلى فقدان الثقة الشعبية في جدوى النظام الدولي.

وهنا يمكن استدعاء أطروحة الواقعية الكلاسيكية عند هانز مورغنثاو، التي ترى أن السياسة الدولية محكومة بالمصالح والقوة لا بالقانون أو الأخلاق. فالمؤسسات الدولية، مهما بدت محايدة، لا تستطيع تجاوز إرادة القوى العظمى.

القسم الأول: أزمة الشرعية الدولية والمفارقة الهيكلية

لقد دفع هذا التناقض الفاعلين الدوليين إلى البحث عن مسارات بديلة لتجاوز الجمود، لكن العقود الماضية لم تُنتج قاعدة أو سلوكاً قادراً على كسر الحلقة المفرغة. بل إن الأحداث المفصلية الكبرى ـ مثل احتلال العراق سنة 2003، أو الإبادة الجماعية التي نشهدها في غزة، أو التهديدات المتكررة ضد قوى إقليمية ـ لم تفعل سوى أن تكشف هشاشة المؤسسات العالمية، وفي مقدمتها الأمم المتحدة، التي بدت وكأنها متفرج مُقعد أمام مسرح الأزمات، عاجزة عن التدخل الفعّال أو فرض قواعد ملزمة.

وهنا يمكن استدعاء أطروحة الواقعية البنيوية عند كينيث والتز، التي ترى أن النظام الدولي محكوم ببنية الفوضى، حيث لا سلطة عليا فوق الدول، وأن القوى الكبرى هي التي تحدد مسار الأحداث وفقاً لمصالحها. كما يمكن الإشارة إلى نظرية “الاعتماد المتبادل المعقد” عند كيوهان وناي، التي تؤكد أن المؤسسات الدولية لا تستطيع فرض إرادتها إلا إذا توافقت مع مصالح القوى العظمى، وهو ما يفسر عجز الأمم المتحدة عن مواجهة الأزمات التي لا تخدم تلك المصالح.

إن احتلال العراق عام 2003 كان مثالاً صارخاً على هذا الخلل، إذ جرى خارج إطار الشرعية الدولية، وكذلك الحال في غزة حيث تتكشف يومياً مأساة إنسانية تُظهر عجز النظام الدولي عن حماية المدنيين أو فرض قواعد القانون الإنساني. هذه الوقائع تؤكد أن النظام الدولي يعيش أزمة شرعية متفاقمة، وأن المؤسسات العالمية فقدت الكثير من قدرتها على إقناع الشعوب بأنها قادرة على تحقيق العدالة أو حفظ الأمن.

القسم الثاني: موقع العراق في التحولات الإقليمية والاستراتيجية الغربية

في المشهد الإقليمي الراهن، يقف العراق في موقع بالغ الحساسية، ليس باعتباره دولة ذات موارد طبيعية فحسب، بل كفاعل تاريخي وحضاري يملك القدرة على التأثير في مسار الأحداث. إن العراق، الذي شكّل عبر العصور مركزاً للتفاعل الثقافي والسياسي، لا يمكن اختزاله في حدود جغرافية أو اقتصادية، بل هو عنصر أساسي في معادلة الشرق الأوسط، حيث تتقاطع عنده مصالح القوى الكبرى وتتشابك فيه رهانات المستقبل.

من منظور القوى الغربية، يُنظر إلى العراق باعتباره “المفتاح” الذي لا بد من ضبطه لضمان استقرار المنطقة. فاستقرار الشرق الأوسط في نظر هذه القوى لا يتحقق إلا عبر إعادة صياغة وضع العراق بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية، سواء في مجال الطاقة أو في موازين النفوذ العسكري والسياسي. هذه الرؤية تجعل العراق في قلب الحسابات الدولية وتضعه أمام تحدي الحفاظ على استقلال قراره الوطني في مواجهة ضغوط خارجية متزايدة.

والتناقض في المواقف الغربية ولا سيما الأمريكية يظل سمة بارزة في هذا السياق. فمن جهة تُطلق تصريحات تهديدية أو تحذيرية تستهدف العراق، ومن جهة أخرى تُقدَّم مبادرات ظاهرها التعاون والشراكة. هذا التباين يعكس ازدواجية عميقة بين منطق العلاقات الدولية الذي تحكمه المصالح والبراغماتية، ومنطق القانون الدولي الذي يفترض المساواة بين الدول. وهنا يظهر العراق كحالة اختبار لمدى قدرة النظام الدولي على التوفيق بين المبادئ المعلنة والممارسات الفعلية.

ولفهم هذا التناقض، يمكن الاستعانة بنظرية الاعتماد المتبادل المعقد التي طرحها روبرت كيوهان وجوزيف ناي، والتي تؤكد أن العلاقات الدولية لم تعد تُدار بمنطق القوة العسكرية وحدها، بل عبر شبكة معقدة من المصالح الاقتصادية والسياسية المتبادلة. وفق هذا المنظور يصبح العراق محوراً لا غنى عنه، إذ إن موقعه الجغرافي الاستراتيجي وثرواته النفطية يجعلان استقراره شرطاً أساسياً لاستقرار الأسواق العالمية وتوازن القوى الإقليمية.

كما يمكن النظر إلى العراق من زاوية الواقعية البنيوية عند كينيث والتز، التي ترى أن الدول الكبرى تسعى دائماً إلى منع أي فراغ استراتيجي في مناطق حساسة، وهو ما يفسر محاولات الغرب المستمرة لإعادة صياغة موقع العراق بما يضمن بقاءه ضمن دائرة النفوذ الغربي. وفي المقابل، فإن العراق إذا ما نجح في بلورة رؤية وطنية مستقلة، يمكن أن يتحول إلى لاعب إقليمي قادر على الموازنة بين القوى الكبرى، مستفيداً من موقعه كجسر بين آسيا والشرق الأوسط وأوروبا.

إن موقع العراق في التحولات الإقليمية ليس مجرد تفصيل جغرافي، بل هو عنصر جوهري في رسم ملامح النظام العالمي الجديد. فالقوى الكبرى، من واشنطن إلى بكين، تدرك أن العراق ليس ساحة يمكن تجاوزها، بل هو عقدة استراتيجية تحدد مسار التوازنات المقبلة. ومن هنا، فإن التحدي الأكبر أمام العراق يتمثل في قدرته على تحويل موقعه الجغرافي وثرواته الطبيعية إلى أدوات قوة تفاوضية، تُمكّنه من فرض حضوره كفاعل مستقل لا كموضوع للتجاذبات الدولية.

القسم الثالث: السيادة الوطنية والمفاوضات في عالم التبعية

إن الحديث عن السيادة الوطنية في العراق لا يمكن أن يُختزل في مجرد رفع شعار الاستقلال، فالشعارات وحدها لا تكفي لبناء حضور فاعل في التفاعلات العالمية. فالدولة التي تعاني من أزمات خدمية مزمنة، وتباينات سياسية داخلية، تجد نفسها عاجزة عن فرض مواقفها الخارجية بثقة واقتدار. إن الاقتدار الحقيقي يبدأ من الداخل، من بناء شرعية شعبية راسخة تُترجم في مؤسسات قوية، قادرة على خدمة المصلحة العامة، ثم يمتد إلى الخارج ليُشكل أساساً لسياسة خارجية مستقلة وفاعلة.

السمة الأبرز للعلاقات الدولية الراهنة هي استمرار الصراعات الكامنة دون أن تتحول إلى عداء معلن، وهو ما يُعرف في أدبيات العلاقات الدولية بـ “التوازن السلبي“، حيث تُدار الخلافات عبر أدوات غير مباشرة، من العقوبات الاقتصادية إلى الضغوط الدبلوماسية، دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة. وفي هذا السياق، يتزايد دور الفاعلين غير الحكوميين ـ من شركات متعددة الجنسيات إلى منظمات عابرة للحدود ـ لكن أنشطتهم تظل محكومة بسقف تفرضه القوى الكبرى، التي تحدد شكل ونطاق هذه الأنشطة بما يتوافق مع مصالحها الاستراتيجية.

واشنطن ـ على سبيل المثال ـ تسعى إلى بناء كتلة مستدامة ضمن مجال نفوذها، وتحرص على إدراج دول الخليج في هذا الإطار، في محاولة لتثبيت دورها كركيزة أساسية في النظام العالمي المقبل. هذا التوجه يعكس ما يسميه الواقعيون “سياسة الاحتواء”، حيث تُبنى التحالفات ليس فقط لمواجهة خصوم معلنين، بل لضمان السيطرة على مناطق استراتيجية ومنع أي قوة منافسة من ملء الفراغ.

في المقابل، يطرح ألكسندر وندت في نظريته البنائية أن هوية الدول وتصوراتها عن نفسها هي التي تحدد سلوكها الدولي. فإذا ما أعاد العراق تعريف ذاته كدولة ذات سيادة مستقلة، قادرة على تجاوز الانقسامات الداخلية، فإنه يستطيع أن يُغيّر موقعه في النظام الدولي، حتى في ظل الضغوط الغربية. فالدول ليست مجرد كيانات مادية، بل هي أيضاً تصورات وأفكار تُشكل هويتها، وإذا ما نجح العراق في إعادة صياغة هويته الوطنية على أسس جامعة، فإنه سيكتسب قدرة أكبر على التفاوض والمناورة في عالم تحكمه التبعية المتبادلة.

كما يمكن استدعاء نظرية “القوة الناعمة” التي طرحها جوزيف ناي، والتي تؤكد أن النفوذ لا يُقاس بالقوة العسكرية وحدها، بل أيضاً بالقدرة على التأثير الثقافي والفكري. والعراق، بما يمتلكه من إرث حضاري وثقافي، يستطيع أن يوظف هذا الرصيد كأداة قوة ناعمة تُعزز موقعه في المفاوضات الدولية، وتُعيد له مكانته كفاعل حضاري لا يمكن تجاوزه.

إن التحدي الأكبر أمام العراق اليوم ليس فقط مقاومة الضغوط الخارجية، بل بناء الداخل بما يضمن له شرعية تفاوضية حقيقية. فالمفاوضات في عالم التبعية ليست مجرد عملية تقنية، بل هي انعكاس لمكانة الدولة وقوة مؤسساتها، وقدرتها على تحويل مواردها وهويتها إلى أدوات تفاوضية تُحقق مصالحها الوطنية العليا.

القسم الرابع: متطلبات تحقيق السيادة والموقف الاستراتيجي للعراق

يقف العراق اليوم أمام وضع برزخي معقد، لا هو استقلال كامل يتيح له حرية القرار، ولا هو احتلال مباشر يفرض عليه وصاية شاملة، بل حالة وسطية تتجلى في تحكم اقتصادي وعسكري يضع البلاد بين الحرية المقيدة والهيمنة غير المعلنة. هذا الوضع يطرح إشكالية جوهرية تتجاوز مجرد الصراع مع المحتل العسكري، لتصل إلى لبّ مسألة السيادة والاستقلال في مواجهة التعديات المستمرة التي تراكمت عبر العقود.

إن عامل الزمن لم يعد في صالح العراق، فكل تأخير في بلورة موقف استراتيجي مستقل يزيد من تعقيد ظروف التفاوض المقبلة. القوى الكبرى، وفق منطق الواقعية السياسية الذي صاغه مورغنثاو، تسعى لإضعاف العراق تدريجياً، بحيث يصبح في وضع لا يملك فيه القدرة على اتخاذ قرارات سيادية تخص تبادلاته الاقتصادية والسياسية مع جيرانه. هذا المسار يعكس ما يسميه كينيث والتز في الواقعية البنيوية “إعادة توزيع القوة” داخل النظام الدولي، حيث تُحرم الدول الضعيفة من القدرة على المناورة، وتُترك رهينة لإرادة القوى المهيمنة.

ومع ذلك، فإن العراق يمتلك أوراقاً استراتيجية إذا ما أحسن إدارتها يمكن أن تُعيد له موقعه الطبيعي كفاعل مستقل. فالموقع الجغرافي للعراق، الذي يجعله حلقة وصل بين الخليج العربي وبلاد الشام وإيران وتركيا، يمنحه وزناً استراتيجياً لا يمكن تجاوزه. كما أن ثرواته النفطية والغازية، إذا ما أُديرت بعقلانية، يمكن أن تتحول إلى أدوات ضغط تفاوضية تُعيد التوازن في علاقاته مع القوى الكبرى.

وتؤكد نظرية “القوة الناعمة” لجوزيف ناي أن النفوذ لا يُقاس بالقوة العسكرية وحدها، بل أيضاً بالقدرة على التأثير الثقافي والفكري. والعراق، بما يمتلكه من إرث حضاري وثقافي، يستطيع أن يوظف هذا الرصيد كأداة قوة ناعمة تُعزز موقعه في المفاوضات الدولية، وتُعيد له مكانته كفاعل حضاري لا يمكن تجاوزه.

كما أن العراق بحاجة إلى استراتيجية تفاوضية واعية، تقوم على إدراك أن العالم اليوم تحكمه التبعية المتبادلة، كما أشار روبرت كيوهان في نظريته حول “الاعتماد المتبادل المعقد”. فالعراق لا يستطيع أن ينعزل عن محيطه أو أن يفرض سيادته عبر الانكفاء الداخلي، بل عليه أن ينخرط في شبكة العلاقات الدولية بوعي، وأن يحوّل هذه التبعية إلى فرصة لتعزيز مصالحه الوطنية.

إن الخروج من الوضع البرزخي يتطلب رؤية شاملة، تبدأ من الداخل عبر بناء مؤسسات قوية وشرعية شعبية راسخة، ثم تمتد إلى الخارج عبر سياسة خارجية متوازنة تُدرك حدود القوة وتستثمر عناصر النفوذ المتاحة. وإذا ما نجح العراق في ذلك، فإنه سيؤكد للعالم أن إرادة الشعوب لا تُقهر، وأن السيادة ليست شعاراً يُرفع، بل ممارسة فعلية تُترجم في استقلال القرار وصون الكرامة الوطنية.

التوصيات الاستراتيجية

– المصالح العليا والهوية الوطنية: على العراق أن يضع مصالحه العليا، المستندة إلى هويته الوطنية الجامعة وإرادته الشعبية، في صدارة أولوياته. فالمفاوضات، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، يجب أن تُدار وفق بوصلة المصلحة القومية، لا وفق إملاءات خارجية أو حسابات آنية.

– المشاركة الاستباقية الواعية: إن حضور العراق المستمر في المفاوضات الإقليمية والدولية ضرورة لا غنى عنها، شرط أن يتمسك بمبادئه الوطنية المستقلة، بعيداً عن الانجرار وراء محاور متصارعة. فالعراق قادر على أن يكون طرفاً مبادراً لا مجرد تابع، وأن يطرح رؤيته الخاصة لمستقبل المنطقة.

– التفاوض العقلاني والاعتراف بالواقع: المشاركة في الحوار الدولي ينبغي أن تكون بعقلانية واقتدار، بعيداً عن الانفعال أو التعصب، مع إدراك أن العالم اليوم تحكمه شبكة معقدة من المصالح المتبادلة. إن التفاوض ليس تنازلاً، بل هو أداة لتحقيق السيادة الكاملة عبر موازنة المصالح، وتوظيف عناصر القوة المتاحة.

– الاعتماد على الشعب والقوة الذاتية: يجب أن تنطلق المفاوضات من ثقة بالنفس، تستند إلى الشعب وإلى القوة الذاتية، بما يشمل تعزيز الخدمات، محاربة الفساد، وتوحيد الصف الوطني. فالقوة الحقيقية للعراق ليست فقط في موارده الطبيعية أو موقعه الجغرافي، بل في تماسكه الداخلي وصلابته الوطنية، وهي التي تمنحه القدرة على فرض إرادته في مواجهة الضغوط الخارجية.

الخلاصة

إن الشرق الأوسط يعيش اليوم على وقع نظام عالمي جديد آخذ في التشكل، ولن يستقر هذا النظام إلا إذا انطلق استقراره من داخل الإقليم نفسه. والعراق بما يمتلكه من مقومات عظيمة وإرث حضاري لا يُضاهى، مطالب بأن يُحدد بصدق مكانته الحقيقية في العالم المعاصر، بعيداً عن التبعية لأي محور خارجي. بعد ذلك عليه أن ينخرط في تفاعلات متعددة الأطراف، متمسكاً بمبادئه الوطنية المستقلة، وساعياً إلى تحقيق أهدافه قصيرة وطويلة المدى عبر خطط عقلانية تُراعي المصالح الوطنية والجماعية الشاملة.

وبين الواقعية التي ترى العالم محكوماً بالقوة، والبنائية التي تؤكد دور الهوية، والاعتماد المتبادل الذي يربط مصائر الدول ببعضها، يبقى العراق أمام خيار واحد: أن يُعيد صياغة موقعه في النظام الدولي بما يليق بتاريخه وحضارته، وأن يثبت أن السيادة ليست شعاراً يُرفع، بل ممارسة فعلية تُترجم في استقلال القرار وصون الكرامة والدفاع عن السيادة الوطنية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *