الدينار والدولار: من يقرر مصير اقتصاد العراق؟

الدينار والدولار: من يقرر مصير اقتصاد العراق؟
يُبرز التحليل أن ربط الدينار العراقي بالدولار وفّر استقرارًا نقديًا مؤقتًا لكنه قيّد السيادة الاقتصادية، إذ جعل السياسة النقدية تابعة للفيدرالي الأمريكي. ويؤكد أن معالجة الريعية وتنويع الاقتصاد شرط لاستعادة القرار المالي المستقل....

سياسة ربط الدينار العراقي بالدولار: الجذور، المبررات، وتكاليف السيادة النقدية

شكّل ربط الدينار العراقي بالدولار الأمريكي أحد أبرز ملامح السياسة النقدية في مرحلة ما بعد عام 2003، ولم يكن هذا الإجراء فنيا بحتا، لكنه جاء انعكاسا لتحولات جيوسياسية واقتصادية عميقة.

فمنذ تسعينيات القرن الماضي وبداية الألفية الثانية، ومع ما رافقها من حصار واحتلال أمريكي للعراق، شهدت البلاد انهيارا في قيمة العملة الوطنية وتضخما مفرطا، ما دفع الجهات الدولية والمحلية إلى البحث عن وسيلة لإعادة الاستقرار النقدي.

• النشأة والسياق التاريخي

قبل عام 2003، كان الدينار العراقي يعاني من صدمات اقتصادية متلاحقة بسبب الحروب والحصار الاقتصادي الطويل، حيث وصل التضخم إلى مستويات هائلة، وانخفضت قيمة الدينار إلى مستويات قياسية مقابل الدولار.

ومع الغزو الأمريكي ومرحلة الاحتلال، قرر الحاكم المدني “بول بريمر”، بالتعاون مع المؤسسات المالية الدولية، ربط الدينار بالدولار كخطوة لإعادة الثقة بالعملة واستقرار السوق.

كان الهدف المباشر من هذا القرار هو:

-كسر دائرة التضخم المفرط الناتج عن فقدان الثقة بالدينار.

– تثبيت توقعات الأسواق لتمكين الحكومة من إعادة بناء مؤسساتها المالية.

– تسهيل التمويل الدولي وإعادة الإعمار بعد سنوات طويلة من النزاع.

ومنذ عام 2004، أصبح الدينار العراقي مربوطا بالدولار عند سعر شبه ثابت (حوالي 1450–1460 دينارا لكل دولار)، وهو ما وفر نوعا من الاستقرار الظاهري للأسواق المالية، لكنه أتى بتكاليف كبيرة على المدى الطويل.

فبالرغم من هذا الربط حقق استقرارا نقديا سريعا، إلا أنه وضع العراق في مسار نقدي معقد تتداخل فيه العوامل الخارجية والداخلية.

•المبررات الهيكلية لاستمرار الربط

1-الطبيعة الريعية للاقتصاد العراقي

يعتمد العراق بشكل شبه كامل على النفط، الذي يشكّل أكثر من 95% من إيرادات الموازنة العامة لعام 2024.

وبما أن النفط يسعّر ويباع بالدولار، فإن ربط الدينار بالدولار يحمي الحكومة من تقلبات أسعار الصرف عند تحويل العوائد النفطية إلى الدينار لتغطية نفقات الدولة.

2-استقرار الأسعار المحلية

يعتمد العراق على الاستيراد لتلبية أكثر من 85% من احتياجاته من السلع الاستهلاكية والغذائية، وسعر الصرف الثابت يوفر مرجعية مستقرة لتسعير هذه الواردات، مما يقلل من التضخم المستورد.

فكل ارتفاع في سعر الدولار عالميا ينتقل فورا إلى السوق العراقية عبر كلفة الاستيراد، لذلك يوفّر الربط نوعا من مظلّة الحماية المؤقتة من تقلبات الأسعار.

3-جذب الاستثمارات الأجنبية

ربط الدينار بالدولار يمنح المستثمرين قدرا من الأمان، إذ يقلل من المخاطر المرتبطة بتقلبات العملة، ما يساعد في جذب الاستثمارات، خصوصا خلال مرحلة إعادة الإعمار بعد عام 2003.

  • التكاليف البنيوية للربط

1-التبعية للسياسة النقدية الأمريكية

أصبح البنك المركزي العراقي تابعا فعليا لسياسات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فحين يرفع الفيدرالي أسعار الفائدة لاحتواء التضخم في الولايات المتحدة، يضطر البنك المركزي العراقي إلى تبني سياسة مشابهة، حتى لو كانت الظروف الاقتصادية المحلية تتطلب خفضا للفائدة لتحفيز النمو.

2-استنزاف الاحتياطيات الأجنبية

الدفاع عن سعر الصرف الثابت يتطلب احتياطي دولاري كبيرا لمواجهة أي ضغوط على العملة.

وأي انخفاض في أسعار النفط أو هروب لرؤوس الأموال يؤدي مباشرة إلى ضغط على الاحتياطيات.

فعلى سبيل المثال، في عام 2020 تراجعت الاحتياطيات إلى نحو 48 مليار دولار بفعل انهيار أسعار النفط، ما أبرز هشاشة النظام القائم على الربط.

3-قيود على السياسات الاقتصادية المحلية

الربط يقلل من قدرة الحكومة على استخدام أدوات السياسة النقدية بشكل مستقل، مثل التحكم بالسيولة، أو تحديد أسعار الفائدة، أو إصدار الدين المحلي (السندات).

وهذا يجعل إدارة الاقتصاد العراقي أقل مرونة وأكثر عرضة للصدمات الخارجية.

•مقارنة مع التجارب الإقليمية (دول الخليج)

تربط دول الخليج مثل الإمارات والكويت والسعودية عملاتها بالدولار أيضا، لكن الفروق الهيكلية جوهرية.

فالاقتصادات الخليجية تتميز بدرجة أعلى من التنويع، وتمتلك صناديق سيادية ضخمة تعمل كصمام أمان ضد تقلبات أسعار النفط، كما انها تدير احتياطيات نقدية واسعة تمكّنها من التدخل السريع عند الحاجة.

فعلى سبيل المثال، تمتلك السعودية احتياطيا يناهز 450 مليار دولار مع تنويع اقتصادي يقارب 35%، بينما تمتلك الإمارات نحو 165 مليار دولار ودرجة تنويع تصل إلى 70%.

أما العراق، فاحتياطيه يبلغ نحو 100 مليار دولار فقط، في حين لا يتجاوز التنويع الاقتصادي لديه 5%..

وهذه المقارنة تظهر أن المشكلة في العراق ليست في نظام الربط نفسه، بل في هشاشة الاقتصاد الذي يعتمد على مصدر واحد للإيرادات ويملك احتياطيات محدودة نسبيا.

•الخلاصة

بينما يوفر ربط الدينار بالدولار استقرارا قصير الأمد، فإنه يكرّس التبعية ويحدّ من أدوات السياسة النقدية.

وللتعامل مع هذا الواقع، ينبغي على الحكومات العراقية ومؤسساتها الاقتصادية أن تتجه نحو:

1-معالجة الهيكل الريعي: من خلال سياسات لتنويع الاقتصاد، دعم الصناعات المحلية، وزيادة الصادرات غير النفطية.

2-تعزيز أدوات السياسة النقدية: عبر تطوير سوق السندات المحلية وأدوات السوق المفتوح وتنظيم السيولة.

3-دراسة نماذج بديلة: مثل الربط بسلة عملات تشمل النفط أو العملات الرئيسية لتقليل المخاطر الجيوسياسية.

4-التواصل مع المواطن: بتوضيح أسباب الربط وفوائده ومخاطره لإشراك المجتمع في قرارات الإصلاح الاقتصادي.

إن خيار الربط بالدولار ليس مجرد قرار تقني، بل هو خيار سيادي بامتياز، يعكس موقع العراق في النظام الاقتصادي العالمي.

وبقدر ما يحقق هذا الربط من استقرارٍ نقدي، فإنه يختبر قدرة الدولة على استعادة قرارها الاقتصادي والسيادي في آن واحد.

المصادر

– صندوق النقد الدولي (2024): تقرير مشاورات المادة الرابعة للعراق

– وزارة المالية العراقية (2024): تقرير تنفيذ الموازنة العامة للدولة

– البنك المركزي العراقي (2024): التقرير السنوي للبنك المركزي

– صندوق النقد العربي (2024): التقرير الاقتصادي العربي الموحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *