من بنت جبيل إلى مصيلح، زبدين، تول وحاروف: صمت الحكومة جريمة ثانية بعد جرائم حرب العدو

من بنت جبيل إلى مصيلح، زبدين، تول وحاروف: صمت الحكومة جريمة ثانية بعد جرائم حرب العدو
تمّ توثيق هجوم مباشر استهدف منشأة مدنية تضمّنت نحو ٣٠٠ آلية إعادة إعمار في لبنان، معتبرة خرقاً فاضحاً للقانون الدولي الإنساني والمادة ٨ من نظام روما، فيما مجلس الأمن اقتصر على بيان صحفي ولا إحالة للمحكمة الجنائيّة الدوليّة...

منذ الإعلان عن وقف إطلاق النار في 27 نوفمبر، لم يُسجَّل لبنان سوى شكوى رسمية واحدة تقدمت بها الحكومة اللبنانية إلى مجلس الأمن، وتناولت جريمة قصف منشأة مدنية في منطقة مصيلح تضم نحو 300 آلية مخصَّصة لإعادة الإعمار وتزفيت الطرقات، وقد تم تدميرها بالكامل بفعل هجوم مباشر نفذته طائرات الاحتلال الإسرائيلي. وكانت تلك المنشأة تخضع لإشراف مدني، ولا تضم أي أهداف عسكرية، ما يجعل القصف خرقًا فاضحًا لأحكام القانون الدولي الإنساني ولأحكام المادة الخامسة من نظام روما الأساسي التي تُدرج في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. وجريمة العدوان هذه  ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية.

لكنّ الصدمة الكبرى لم تكن في العدوان نفسه، بل في تخلّي مجلس الأمن عن مناقشة الشكوى اللبنانية، مكتفيًا ببيان صحفي باهت لم يتطرّق إلى مضمون الشكوى أو طبيعة الجريمة. ومع ذلك، لم تُقدِم الحكومة اللبنانية على الخطوة الطبيعية التالية، أي رفع دعوى رسمية أمام المحكمة الجنائية الدولية، رغم أنّ رئيس الحكومة نفسه قاضٍ دولي سابق شغل موقعًا مرموقًا في مؤسسات العدالة الدولية، ويعرف تمامًا المسار القانوني لتوثيق الجرائم والإحالة إلى المحاكم المختصة.

فجرائم الحرب موثّقة وملفاتها جاهزة منذ اليوم الأول لوقف إطلاق النار ولكم رئيس الحكومة لم يطلب جمع ملف متكامل لتقديمه عند الحاجة؛ وهذا من مهام وزارة الإعلام لمتابعة ملفٍ لهذه الأهمية.

غمنذ بداية العدوان الإسرائيلي الأخير على الجنوب، وثّقت الهيئات الميدانية اللبنانية والمنظمات الدولية أكثر من 5021 اعتداء بري وبحري وجوي، خلّفت نحو 300 شهيد و580 جريحًا، معظمهم من المدنيين، إضافة إلى تدمير مئات المنازل والبنى التحتية والمستشفيات والمدارس ومرافق الخدمات. وامتدت المجازر من بنت جبيل إلى الَمصيلح، زبدين، تول، حاروف شمسطار النبي شيت والهرمل ولكلك أدق هناك إحتلال جوي لكل لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله. حيث إغتالت الطائرات المسيرة عائلات بأكملها.

ففي زبدين، قُتل رجل كفيف مع زوجته لحظة فتح باب سيارتهما أثناء  وجودها على الطريق العام. وفي حاروف استهدفت طائرة مسيّرة سيارة َمدنية بشكل مباشر، رغم عدم وجود أي هدف عسكري في المنطقة. وفي بنت جبيل  تم إغتيال عائلة بكاملها بدم بارد حين إستهدفت مسيرة سيارة العائلة  بدم بارد فارتقى الأب وثلاثة أطفال  مباشرة ولا تزال الأم وابنتها الكري في العناية القَفائقة.

وتتركز الغارات الإسرائيلية على تدمير  والحفارات ( بوكلين)، الجرافات؛ والبوب كات وكافة الآليات المدنية التيز تُستخدم لإصلاح الطرق وشبكات المياه، ما يُظهر بوضوح أن الاستهداف كان ممنهجًا للقدرات المدنية، والبنى التحتية، وليس لضرورات عسكرية آنية.

فهذه الوقائع، وفق المعايير القانونية الدولية، تشكّل جرائم حرب مكتملة الأركان بموجب المادة (8) من نظام روما، وتشمل “تعمد توجيه هجمات ضد الأعيان المدنية” و“قتل المدنيين عمدًا”، فضلًا عن جرائم ضد الإنسانية تشمل “القتل والاضطهاد والتدمير المنهجي”. وبحسب خبراء قانونيين لبنانيين، فإن الملف القانوني لهذه الجرائم يجب أن يكون جاهزًا منذ الأيام الأولى للعدوان، إذ يجب جمع كافة الوثائق والصور والإحداثيات والتقارير الطبية، ما يُمكّن لبنان من التوجّه فورًا إلى المحكمة الجنائية الدولية دون أي عراقيل إجرائية.

#إذعان سياسي وغياب الإرادة الوطنية

فالسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: لماذا لم تتقدّم الحكومة اللبنانية بالدعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية؟

فهل السبب يعود إلى ضغوط أميركية مباشرة هدفت إلى منع أي مواجهة قانونية مع إسرائيل؟

أم أن غياب الإرادة السياسية، جعل الحكومة تتعامل مع دماء شعبها، كملف ثانوي يُقايَض به في المفاوضات الإقليمية؟

وما يثير الريبة هو أن رئيس الحكومة، الذي يحمل صفة “القاضي الدولي السابق”، لم يستخدم خبرته القانونية ولا مكانته السابقة في المؤسسات القضائية الدولية للدفاع عن سيادة بلده وشعبه أمام أفظع الجرائم.

فهذا الصمت الرسمي، في ظل توافر الأدلة والاختصاص، يُفسَّر كإذعانٍ للإرادة الأميركية والإسرائيلية، لا كحسابات قانونية حامية . فالمحكمة الجنائية الدولية تمارس اختصاصها على الجرائم الواقعة ضمن أراضي الدول الأطراف أو المرتكبة ضدّ رعاياها، ولبنان الذي اعتمد نظام روما ولم يصادق عليه بعد، يمكنه منح اختصاص خاص للمحكمة بموجب إعلان رسمي وفق المادة (12) من النظام الأساسي، وهو مسار استخدمته دول أخرى كفلسطين وأوكرانيا سابقًا.

#من التقصير إلى التواطؤ الصامت

حين يتقاعس من أقسم على حماية الوطن وسيادته عن استخدام أدوات العدالة الدولية المتاحة، يتحول التقصير إلى تواطؤ سياسي وأخلاقي.

فالدفاع عن الشعب لا يكون بالبيانات والتصريحات، بل بإطلاق المسارات القانونية التي تحفظ الحقوق وتردع المعتدي.

فقد شكّلت جريمة حرب مصيلح وما تبعها من جرائم حرب في بنت جبيل وحاروف زبدين والنبطية وصديقين وشمسطار والنبي شيت والهرمل وعلى مساحة كل لبنان من أقصى جنوبه إلى أقصى شماله مشهدًا دمويًا لا يحتمل التأويل، إذ قصفت إسرائيل كل ما له صلة بالحياة والإعمار في الجنوب والبقاع، وكأنها تسعى إلى إبادة بطيئة للبنية المدنية اللبنانية، ضمن سياسة الأرض المحروقة.

وأما الحكومة، فبدا أنها تمارس سياسة “التهدئة بأي ثمن”، متجاهلة أن القانون الدولي لا يُهادن في الجرائم ضد الإنسانية. ولأن مجلس الأمن تآمر مع المعتدي وإكتفى ببيان صحفي لا قيمة قانونية له.

وبناءً عليه فإن الطريق الوحيد لإنصاف الضحايا هو المحكمة الجنائية الدولية، التي أنشئت تحديدًا لمحاسبة مرتكبي مثل هذه الجرائم، حين يعجز النظام الوطني أو يمتنع عن ملاحقتهم.

خاتمة

# من يقف في قفص الاتهام؟

يبدو اليوم أن السؤال لم يعد: هل إرتكب العدو الصهيوني جريمة حرب؟ فالأدلة دامغة والضحايا معروفون.

والسؤال الحقيقي أصبح: من يمنع لبنان من رفع الدعوى؟ ومن المستفيد من إبقاء العدالة مجمّدة؟

فحين يلتزم رئيس الحكومة الصمت وهو “القاضي الدولي السابق” ، وحين تُهمَل ملفات الجرحى والشهداء والدمار، فإن الحكومة تضع نفسها في موضع المتهم بالتقاعس عن واجبها الوطني والقانوني.

فمن لا يحمي سيادة لبنان ولا يدافع عن دماء أبنائه، يفقد شرعية الحكم والأخلاق معًا.

لقد آن الأوان لأن يتحرّك لبنان رسميًا لتقديم دعوى أمام المحكمة الجنائية الدولية، مستندًا إلى الوثائق التي بحوزته، وإلى حقه في الدفاع عن شعبه أمام آلة القتل الإسرائيلية.

فالتاريخ لن يرحم الصمت، ولا العدالة ستغفر الغياب.

وإنَّ غدًا لناظره قريب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *