زاد الحديث في الأوساط السياسية والإعلامية مؤخراً عن تعيين المبعوث الشخصي الأمريكي مارك سافايا، وما يرافق هذا التعيين من علامات استفهام حول طبيعة عمله في العراق، خصوصاً أنه لا يمتلك خبرة حقيقية في العمل السياسي، ولا تاريخاً معروفاً في إدارة الملفات المعقدة. ورغم ذلك، فقد تم تقديمه على أنه شخصية تمتلك رؤية “استشارية” قادرة على ترتيب الأوضاع الداخلية بما يتوافق مع المصالح الأمريكية في البلاد.
مبعوث بملامح غامضة
ينظر كثير من المراقبين إلى هذا التعيين على أنه خطوة جديدة في سياق زيادة التدخل الأمريكي في الشأن العراقي، خصوصاً خلال المرحلة التي تسبق الانتخابات العامة، حيث يسعى البيت الأبيض إلى الإمساك بخيوط اللعبة السياسية من جديد بعد أن فقد جزءاً من نفوذه في السنوات الأخيرة. ويبدو أن مهمة سافايا تتجاوز الدور الدبلوماسي التقليدي، لتأخذ طابع “التوجيه السياسي” غير المعلن، بحيث يعمل كحلقة وصل بين واشنطن وبعض القوى السياسية الفاعلة في الداخل العراقي.
ما وراء الرسائل الأمريكية
تؤكد مصادر عدة أن الخارجية الأمريكية كثّفت في الآونة الأخيرة من رسائلها إلى الأطراف العراقية المختلفة، مركّزة على ضرورة “الاستقرار السياسي” بعد الانتخابات، وهو تعبير دبلوماسي يعني – في الواقع – السعي لتأمين نتائج مرضية للولايات المتحدة. وقد أُشير بشكل غير مباشر إلى أن اختيار رئيس الوزراء القادم سيكون محكوماً بميزان جديد من الشروط، منها أن يكون قريباً من المزاج الأمريكي، ومتوافقاً مع ما يسمى “الديانة الإبراهيمية” بالصيغة التي تروّج لها بعض الدول الإقليمية كالإمارات.
العراق بين الشرق والغرب
ما يُراد من هذه التوجهات هو قطع صلة العراق بالمعسكر الشرقي المتنامي، والمتمثل بالصين وروسيا وإيران، وتحجيم التعاون الاقتصادي والعسكري معه، مقابل تعميق الروابط مع المعسكر الغربي. وكأن العراق يُطلب منه أن يغيّر جلده، وأن يتخلى عن تاريخه وشراكاته القديمة من أجل وعود غير مضمونة. هذا النوع من التوجهات يعكس الرغبة الأمريكية في إعادة رسم خريطة التحالفات داخل بغداد، وجعلها أكثر طواعية لمتطلبات المرحلة القادمة، خصوصاً مع تصاعد المنافسة الدولية على النفوذ في المنطقة.
الدور الملتبس لـ(مارك سافايا)
من جهة أخرى، فإن شخصية مارك سافايا نفسها تثير الكثير من الجدل؛ فهو من أصول عراقية وُلد في بغداد عام 1985، لكنه نشأ وتربّى في الولايات المتحدة، وارتبط اسمه بإدارة بعض الملفات الاقتصادية ذات الطابع التجاري أكثر من السياسي. لذلك يراه البعض أقرب إلى “رجل أعمال سياسي” منه إلى دبلوماسي أو استراتيجي، الأمر الذي يجعل مهمته في العراق محفوفة بالتناقضات، بين ما يريده البيت الأبيض من جهة، وما يمكن للواقع العراقي أن يقبله من جهة أخرى.
عراق تحت المجهر الأمريكي
تكمن الخطورة في أن العراق بات ساحة مفتوحة للتجارب السياسية الخارجية، فكل مرحلة انتقالية تأتي معها بعثة جديدة، ومبعوث جديد، وشروط جديدة. وما بين مؤتمرات دولية ولقاءات مغلقة ورسائل غير معلنة، يضيع القرار الوطني في متاهة المصالح المتشابكة. إن عودة الولايات المتحدة إلى تحريك أدواتها داخل العراق بهذا الشكل يعيد إلى الأذهان المراحل السابقة التي تم فيها تشكيل الحكومات بضغط خارجي وتفاهمات بعيدة عن الإرادة الشعبية.
الحاجة إلى موقف وطني موحّد
إنّ ما يواجهه العراق اليوم ليس مجرد تعيين مبعوث أو صدور بيان سياسي، بل هو اختبار جديد لمدى قدرته على حماية قراره الوطني من التلاعب والتوجيه. المطلوب اليوم أن يكون للعراق موقف واضح وصريح يرفض أي تدخل خارجي في اختيار قياداته أو توجيه مسار سياسته، سواء جاء هذا التدخل من الشرق أو من الغرب. فالدولة التي لا تملك إرادتها لا تستطيع أن تصنع مستقبلاً حراً لشعبها.
بين السيادة والوصاية
إنّ الدور الذي سيؤديه مارك سافايا خلال الفترة المقبلة سيكشف ما إذا كان العراق يسير نحو استعادة قراره الوطني أم نحو مزيد من الوصاية الأجنبية. وإذا استمر المشهد السياسي العراقي في الارتهان للضغوط الخارجية، فإن الحديث عن “الاستقلال والسيادة” سيبقى مجرد شعارات تُرفع في المناسبات. العراق اليوم بحاجة إلى قادة يضعون مصلحة الوطن فوق كل اعتبار، لأن الأوطان لا تُدار بالمبعوثين، بل برجال دولة يمتلكون إرادة حقيقية وضميراً وطنياً لا يُشترى ولا يُباع.


