بين التطبيل والتضليل وثائق البنك المركزي تكشف اخفاق السياسة النقدية وضياع أموال العراقيين

بين التطبيل والتضليل وثائق البنك المركزي تكشف اخفاق السياسة النقدية وضياع أموال العراقيين
تكشف الوثائق الرسمية فشل السياسات النقدية والمالية، تضارب بيانات الديون، ضعف إدارة الاحتياطي، انهيار القوة الشرائية، وارتفاع الأسعار، مع استمرار تضليل الإعلام، مما يعكس هشاشة الاقتصاد وضرورة الإصلاح الشفاف والمحاسبة المهنية....

في الوقت الذي يخرج فيه عدد من الشخصيات الاقتصادية والمصرفية، إلى الشاشات المحلية والمؤتمرات الرسمية، لتسويق ما يسمونه بـ “الإصلاح النقدي” و”نجاحات البنك المركزي”، تكشف الوثائق الرسمية الصادرة عن البنك المركزي العراقي بتاريخ 30/9/2025، وبإمضاء المحافظ علي محسن العلاق، عن صورة مختلفة تماماً:

سياسة نقدية مرتبكة، إدارة عاجزة، وواقع مالي يهدد استقرار الاقتصاد العراقي.

هذه الوثائق، التي جاءت ردًا على استفسار النائب رائد المالكي، تمثل إدانة رسمية من داخل المؤسسة نفسها وتكشف أن ما يجري تسويقه إعلاميًا ما هو إلا غطاء لتخبط وفشل في إدارة النقد والاحتياطي وأموال الشعب.

أرقام الديون تكشف العجز المالي البنيوي

يقرّ البنك المركزي في كتابه بأن حجم الدين الداخلي بلغ (91) تريليون دينار عراقي، دون وجود قدرة على تغطيته أو آلية قانونية لمعالجته، بسبب “عجز قانون الموازنة وخطة الإقراض”.

هذا الاعتراف الرسمي يعكس انهيار التنسيق بين وزارة المالية والبنك المركزي، ويكشف أن الإدارة المالية في العراق تدار بأسلوب ردّ الفعل لا التخطيط المسبق.

تحليل رقمي:

91 تريليون دينار = حوالي 70 مليار دولار، وهو ما يعادل أكثر من نصف الإيرادات غير النفطية المقدّرة للعراق.

هذه الأرقام تعني أن الدولة تستدين لتغطية عجزها التشغيلي وليس لتطوير مشاريع إنتاجية، أي أن الدين أصبح أداة بقاء سياسي لا أداة تنمية اقتصادية.

تضارب الأرقام في ملف الديون الخارجية

يشير الكتاب إلى أن الديون الخارجية (القيمية) تبلغ 54 مليار دولار، في حين تؤكد بيانات وزارة المالية وصندوق النقد الدولي أن الرقم يتجاوز 60 مليار دولار.

هذا التضارب في الأرقام بين مؤسستين سياديتين (المالية والمركزي) يُعد دليلاً على غياب الشفافية المحاسبية وانعدام قاعدة بيانات مالية موحّدة، وهي إحدى أبرز مظاهر فشل الحوكمة المالية.

تحليل نقدي

كيف يمكن لمؤسسة تجهل حجم دينها الخارجي بدقة أن تقنع الأسواق والمستثمرين بأنها تمتلك سياسة نقدية رشيدة؟

بل إن هذا التناقض نفسه يكشف أن البيانات التي يُعلنها البنك المركزي في المؤتمرات ليست سوى أرقام إعلامية سياسية وليست مالية فنية.

السندات الخارجية… أموال العراق تحت التجميد

الكتاب الثاني يقرّ أن قيمة السندات العراقية في الولايات المتحدة لا تتجاوز (11 مليار دولار)، دون تفصيل للعوائد أو آليات إدارتها.

وفي الوقت نفسه، يدّعي البنك المركزي “عدم وجود قيود على التحويلات النفطية إلى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي”، رغم أن الواقع يشير إلى قيود واضحة ومعلنة من وزارة الخزانة الأمريكية على عدد من المصارف العراقية بسبب شبهات غسل الأموال والتمويل غير المشروع.

تحليل مالي

11 مليار دولار تمثّل فقط عُشر الاحتياطي الكلي للعراق (110 مليارات)، ما يعني أن 90% من الاحتياطي خامد بلا إدارة استثمارية حقيقية، أو أنه موضوع في حسابات لا تحقق أي عائد مالي، في وقت يعاني فيه المواطن من ضعف الدينار وارتفاع الأسعار.

التطبيل الإعلامي… غطاء الاخفاق الإداري

منذ مطلع 2025، شهدت بغداد سلسلة من المؤتمرات والملتقيات الاقتصادية التي شارك فيها عدد من المصرفيين والمحللين المتعاونين مع إدارة البنك المركزي، أبرزها:

  • ملتقى القيادات البحثية العراقية الذي تحدث فيه المحافظ العلاق عن “نجاح البنك في استقرار السوق”، رغم استمرار تدهور الدينار بنسبة 25%.
  • منتدى العراق للاستثمار (استثمر في بلاد ما بين النهرين) الذي ركّز على “الإصلاح النقدي”، في حين تعترف وثائق البنك نفسها بعجزه عن إدارة الديون.
  • لقاءات تلفزيونية وتصريحات متكررة لشخصيات اقتصادية “مقرّبة من البنك المركزي” كانت تهاجم كل من ينتقد السياسة النقدية وتصفهم بـ”غير المختصين”.

تحليل سياسي اقتصادي

هذه اللقاءات لم تكن جلسات نقاش علمي، بل حملات تلميع دعائية تهدف إلى تثبيت صورة غير دقيقه عن الاستقرار النقدي في حين أن الواقع المالي ينهار.

لقد تحوّل بعض الأكاديميين والمصرفيين إلى مروّجين رسميين لفشل الإدارة النقدية، متجاهلين الأرقام الصادرة عن مؤسستهم نفسها.

النتيجة: تضليل الرأي العام وتزييف الوعي المالي لدى المواطن.

التداعيات على المواطن والاقتصاد

سياسات البنك المركزي المرتبكة تسببت في:

  1. انهيار القوة الشرائية للدينار بنسبة تقارب 30% خلال عام واحد.
  2. ارتفاع أسعار السلع بنسبة 35% في المتوسط، خاصة المستوردة التي تعتمد على الدولار التجاري.
  3. تراجع حجم التداول التجاري الداخلي بأكثر من 40% في النصف الأول من 2025، نتيجة تقييد التحويلات.
  4. توسع السوق الموازية للعملة، حيث تجاوز سعر الدولار الموازي 1600 دينار في بعض الفترات.
  5. ارتفاع نسب الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة منذ 2003، وفق بيانات البنك الدولي.

النتيجة الاجتماعية:

ما بين ترويج إعلامي وواقع اقتصادي مؤلم، أصبح المواطن العراقي هو الضحية الأولى. فقدت الأسر العراقية نصف قدرتها الشرائية، وتآكلت مدخرات الطبقة الوسطى، فيما تتزايد أرباح المصارف المرتبطة بنوافذ بيع العملة.

إن الوثائق الرسمية التي أصدرها البنك المركزي العراقي تمثل إقراراً ضمنياً بفشل السياسة النقدية، رغم كل ما يُروّج له في المؤتمرات من شعارات “الإصلاح والاستقرار”.

إن إدارة البنك المركزي الحالية لم تفشل فقط في ضبط السوق النقدي، بل في الحفاظ على مصداقية المؤسسة المالية الأعلى في البلاد.

وبينما يُطبّل البعض لمشاريع “الإصلاح المصرفي” المزعومة، فإن الأرقام والوثائق تكشف العكس تمامًا: اقتصاد هش، دينار ضعيف، وإدارة مالية بلا رؤية.

إن إنقاذ الاقتصاد العراقي يبدأ من كسر دائرة التطبيل المؤسسي، ومحاسبة المسؤولين عن هذا الفشل المالي، وإعادة بناء السياسة النقدية على أسس مهنية شفافة تخدم المواطن لا الطبقة السياسية والمصرفية المتحالفة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *