قراءة تحليلية في المشهد الإقليمي بعد الهدنة
المقدمة:
لم يُطفئ اتفاق غزة نار الحرب تمامًا، بل علّقها عند مفترقٍ بالغ الحساسية. فبعد شهورٍ من المواجهة المدمّرة، تتجه أنظار العالم إلى ما بعد الهدنة: هل تكون بداية مسارٍ سياسي جديد أم مجرد استراحةٍ بين جولاتٍ أشدّ عنفًا؟
بين الأطراف المحلية المتنازعة، وضغوط القوى الإقليمية والدولية، تبدو بوصلة الحرب معلّقة بين الأمل في الاستقرار والميل إلى التصعيد الخفيّ.
أولًا: غزة بين الهدنة وإعادة تشكيل السلطة
يضع الاتفاق الحالي أسسًا لوقف اطلاق النار وتبادل الأسرى وفتح مسارات الإغاثة، لكنه يترك الباب مفتوحًا أمام سؤالٍ أكبر: من يدير غزة؟
المشهد الميداني يوحي بوجود محاولات لإعادة تنظيم السلطة المحلية، بينما تسعى أطراف أخرى إلى ضمان «بيئة آمنة» خالية من التهديدات المسلحة.
ورغم بدء تدفّق المساعدات، فإن حجم الدمار الهائل وتعقيد البنية الإدارية يجعل إعادة الإعمار رهينة التوافق السياسي والرقابة الدولية، أكثر منها قضية مالية فحسب.
ثانيًا: إسرائيل تعيد تموضعها العسكري والأمني
بموجب الهدنة، خفّضت إسرائيل من عملياتها داخل القطاع، وبدأت تعيد توزيع قواتها نحو جبهاتٍ خارجية ترى أنها أكثر حساسية واستراتيجية.
تحليلات مراكز أبحاث غربية، مثل «بروكينغز» و«كارنيغي»، تشير إلى أن الاستراتيجية الإسرائيلية الجديدة تقوم على الردع الوقائي والجاهزية المستمرة دون الانزلاق إلى حربٍ شاملة، تجنبًا لاستنزافٍ جديد.
لكنّ الميدان يبقى مفتوحًا لاحتمالات مفاجئة إذا تصاعدت الاستفزازات عبر ساحاتٍ متفرقة أو هجماتٍ عابرة للحدود.
ثالثًا: الوسطاء الإقليميون وإدارة اليوم التالي
لعبت مصر وقطر وتركيا والولايات المتحدة دورًا مركزيًا في التوصل إلى الاتفاق، وتسعى هذه الدول اليوم إلى تحويل الهدنة إلى قاعدة لإعادة الإعمار وتثبيت الاستقرار.
المبادرات المتداولة تتحدث عن إدارة مدنية فلسطينية جديدة بإشراف عربي ودولي، وعن آليات مراقبة أمنية مشتركة تضمن استمرار الهدوء.
في المقابل، هناك قوى إقليمية أخرى تراقب المشهد بقلقٍ مكتوم، وتستعد لتوظيف أدوات نفوذها غير المباشرة للحفاظ على توازنات الميدان إذا ما رأت اختلالًا في موازين القوى.
رابعًا: بؤر التوتر الداخلية… شرارات قابلة للاشتعال
رغم الهدنة في غزة، لم تهدأ الضفة الغربية، إذ ما تزال تشهد اقتحامات واشتباكات متفرقة، مما يهدد بتوسيع دائرة التوتر.
وفي الداخل الإسرائيلي، تعاني الحكومة من انقسام سياسي حاد بين تيارٍ يرى الاتفاق «ضرورة أمنية» وآخر يعدّه «تنازلًا».
هذه الانقسامات قد تدفع باتجاه خطواتٍ ميدانية أو تصريحاتٍ نارية تعيد أجواء التصعيد، خصوصًا في ظل ضغط الرأي العام والخلافات داخل المؤسسة العسكرية.
خامسًا: السيناريوهات المحتملة
استقرار هشّ ومؤقت:
تستمر الهدنة مع بقاء الأوضاع الإنسانية صعبة والتوترات قائمة، دون انفراج سياسي شامل.
تصعيد متقطّع خارج غزة:
احتمال اندلاع مناوشات محدودة على جبهاتٍ بعيدة أو ساحاتٍ بحرية وجوية، ضمن سياسة “الضغط المتبادل” دون حربٍ مفتوحة.
حلّ سياسي تدريجي:
وهو السيناريو الأندر، لكنه ممكن إذا نجحت القوى الإقليمية والدولية في تحويل الهدنة إلى اتفاق دائم يُراعي العدالة والأمن الإنساني معًا.
الخاتمة:
ما بعد اتفاق غزة ليس سلامًا، بل مرحلة اختبار للنوايا. فبوصلة الحرب ما تزال تتأرجح بين الاستقرار والانفجار، والهدوء الحالي يشبه التقاط الأنفاس أكثر من نهاية الصراع.
إن مستقبل المنطقة مرهون بقدرة الأطراف على إدارة التوازن بين الأمن والكرامة، وبين الردع والإعمار.
فإن تحوّلت الهدنة إلى جسرٍ نحو العدالة، فقد تفتح بابًا لحياةٍ جديدة،
أما إن جُعلت غطاءً لإعادة التموضع والتسلّح، فسيكون العالم أمام جولةٍ جديدة من العنف، أشدّ وأوسع مدى.


