غياب الرؤية النقدية العراقية في المحافل الدولية البنك المركزي خارج الحوار المالي العالمي رغم امتلاك العراق أحد أكبر الاحتياطيات النقدية في المنطقة.
في الوقت الذي أعلن فيه بنك وربة الكويتي مشاركته الفاعلة في المؤتمر السنوي لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي في واشنطن للفترة من 14 إلى 18 تشرين الأول 2025، ليقدّم تجربة الكويت في التحول الرقمي وريادة الصيرفة الإسلامية، يبرز سؤال حاد ومشروع في العراق:
لماذا يغيب البنك المركزي العراقي عن تقديم رؤية نقدية واضحة في مثل هذه المنصات الدولية، مكتفياً بالحضور البروتوكولي دون مبادرة فكرية أو اقتصادية تعبّر عن قوة العراق المالية؟
المفارقة بين الحضور الخليجي والغياب العراقي
بينما تشارك المؤسسات المالية الخليجية في مؤتمرات صندوق النقد الدولي بورقات عمل ومداخلات تعرض رؤاها المستقبلية حول التمويل الإسلامي والتحول الرقمي، نجد أن العراق – بثقله المالي والنفطي – يكتفي بالمقعد الصامت.
في المقابل، سيستعرض نائب رئيس بنك وربة، بدر خالد الشلفان، تجربة البنك في التحول الرقمي، واستراتيجيته في الصيرفة الإسلامية، ومساهمته في مرونة القطاع المصرفي الكويتي، ضمن جلسة نقاشية رفيعة المستوى عنوانها:
»البنية التحتية المالية كمنصة: مرونة القطاع المصرفي الكويتي، ريادة الصيرفة الإسلامية، والابتكار في الخدمات المصرفية الرقمية.«
وفي المقابل، لم يعلن البنك المركزي العراقي أو وزارة المالية عن أي مشاركة فاعلة أو ورقة بحثية تمثل وجهة نظر العراق في السياسة النقدية أو الاستقرار المالي، رغم أن الاحتياطي النقدي العراقي بلغ أكثر من 120 مليار دولار في منتصف عام 2025، وهو الأعلى في تاريخ الدولة.
غياب الإستراتيجية النقدية الوطنية
منذ عام 2021، لم يصدر البنك المركزي العراقي وثيقة إستراتيجية نقدية وطنية متكاملة تحدد رؤيته حتى عام 2030 أو 2035، كما فعلت معظم البنوك المركزية في المنطقة (السعودي، الإماراتي، القطري، الكويتي).
وبينما يواجه الاقتصاد العراقي تحديات التضخم وازدواجية سعر الصرف وتراجع القوة الشرائية للدينار بنسبة 18% خلال ثلاث سنوات، فإن السياسة النقدية الحالية تقتصر على ردود فعل يومية دون إطار استراتيجي شامل.
إن العراق بحاجة ماسة إلى خطة واضحة تشمل:
إدارة مرنة لسعر الصرف وربط مستقر بالدولار دون فقدان السيادة النقدية؛ برنامج إصلاحي حقيقي للمصارف الأهلية (التي تجاوز عددها 72 مصرفاً)؛ التحول الرقمي في المدفوعات والمصارف؛ وتفعيل الشمول المالي وتحرير الائتمان للقطاع الخاص الإنتاجي.
انعكاسات الغياب عن الحوار المالي الدولي
يؤدي هذا الغياب إلى نتائج مقلقة:
1.ضعف ثقة المؤسسات الدولية بقدرة العراق على إدارة أدواته النقدية.
2.خسارة فرص الدعم الفني والمالي من صندوق النقد والبنك الدولي والمؤسسات الإقليمية.
3.تراجع صورة الاقتصاد العراقي في الإعلام المالي العالمي لصالح روايات خارجية تصفه بأنه اقتصاد ريعي هش.
4.انعزال المصارف العراقية عن النظام المالي العالمي بسبب ضعف الامتثال للمعايير الدولية وتخلف الرقمنة.
في المقابل، تستثمر الدول الخليجية مشاركاتها في تلك المؤتمرات لبناء تحالفات مالية وشراكات استثمارية، فيما يظل العراق غائباً عن الطاولة رغم امتلاكه ثاني أكبر احتياطي نفطي في العالم واحتياطي نقدي ضخم غير مستثمر إنتاجياً.
الحاجة إلى انتقال البنك المركزي من المراقبة إلى القيادة
إن البنك المركزي العراقي مطالب اليوم بالتحول من مؤسسة رقابية داخلية إلى مؤسسة سياسات نقدية ذات رؤية دولية، عبر: إعداد وثيقة السياسة النقدية العراقية 2035، وإنشاء وحدة العلاقات الدولية المالية لتنسيق المشاركة الفاعلة في المحافل الدولية، ووضع خطة لتوظيف جزء من الاحتياطي النقدي في استثمارات سيادية وتنموية منتجة داخل العراق، وتفعيل برنامج تمويل وطني للمشاريع الصغيرة والمتوسطة بقيمة لا تقل عن 2 تريليون دينار سنوياً بالشراكة مع غرفة تجارة بغداد والمصارف الأهلية.
نحو رؤية وطنية تشاركية
ندعو إلى إنشاء مجلس تنسيق اقتصادي دائم يضم: البنك المركزي العراقي، وزارة المالية، وزارة التخطيط، اتحاد الغرف التجارية، ورؤساء المصارف الأهلية.
يكون هدفه:
1.صياغة سياسة نقدية وتنموية مشتركة؛
2.تمثيل العراق بفعالية في المؤتمرات الدولية؛
3.تعزيز صورة الدينار العراقي كعملة مستقرة وذات موثوقية؛
4.إدماج الصيرفة الإسلامية والرقمية ضمن خطط الإصلاح المالي للدولة.
العراق بحاجة إلى صوت اقتصادي عالمي
إن صمت العراق في المحافل الاقتصادية الدولية لا يُعد مجرد تقصير بروتوكولي، بل فراغاً استراتيجياً خطيراً يُفقده فرصة الدفاع عن مصالحه النقدية، وتوضيح واقع إصلاحاته أمام العالم.
إن امتلاك احتياطي نقدي يفوق 120 مليار دولار لا يكفي دون رؤية مالية ومشاركة دولية فاعلة.
العراق اليوم بحاجة إلى أن يتحدث بلغة الاقتصاد الدولي لا بلغة الدفاع عن الأزمات، وأن يكون حاضراً بفكر وورقة وموقف، لا متفرجاً على تجارب الآخرين.


