التحول في السياسة الأمريكية تجاه روسيا

التحول في السياسة الأمريكية تجاه روسيا
يبرز التحليل تحوّل السياسة الأمريكية تجاه روسيا من نهجٍ دبلوماسي منضبط إلى نهج الصدمة والردع، عبر العقوبات وإلغاء القمم، بهدف إعادة ترسيخ الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي وتعزيز نفوذها الاقتصادي والسياسي...
يُظهر الرئيس الأمريكي ترامب عودة واضحة إلى نهجه القائم على المفاجأة وتبدل المواقف كأداة رئيسة في إدارة السياسة الخارجية. فقراره الأخير بفرض عقوبات على كبريات الشركات النفطية الروسية، “روسنفت” و”لوك أويل”، وإلغاء القمة المقررة في بودابست، يعكسان رغبة في توظيف عنصر الصدمة كوسيلة لإعادة ضبط ميزان القوى في مواجهة موسكو.

يرى ترامب أن السياسة الدولية تتمحور حول شخصه، وأن قراراته وتصريحاته قادرة على إعادة توجيه الأحداث. وقد لا يخلو هذا الاعتقاد من وجاهة، على الأقل من حيث تأثير خطابه المباشر في الرأي العام العالمي، وفي صياغة أجندة الإعلام والسياسة معاً. ويبدو أن هذه القناعة هي التي تدفع البيت الأبيض إلى التعامل مع فكرة اللقاءات والقمم كأدوات ضغط رمزية، لا كمنصات حوار حقيقية. ففي الوقت الذي أعلن فيه ترامب عزمه على لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، عاد سريعاً ليصف اللقاء بأنه «بلا جدوى في الوقت الراهن»، مشيراً إلى أن إلغاءه يهدف إلى إرباك موسكو ودفعها إلى تقديم تنازلات على مختلف الجبهات.

العقوبات والنفوذ الاقتصادي العالمي

يأتي هذا التوجه متزامناً مع تصعيد اقتصادي تمثل في فرض عقوبات على قطاع النفط الروسي، الذي يعد الركيزة الأساسية لتمويل الاقتصاد الروسي. وترى واشنطن أن هذه الخطوة ستجبر موسكو على إعادة حساباتها في الملف الأوكراني، خصوصاً إذا ما نجحت في تقييد حركة الشركات الروسية في الأسواق الآسيوية. إلا أن الهند، التي تعد أحد أكبر المستوردين للنفط الروسي، قد تتضرر من هذه العقوبات. فالتقارير تشير إلى احتمال تراجع الشركات الهندية الكبرى عن شراء النفط الروسي خشية التعرض للعقوبات الثانوية. وفي المقابل، تواصل بعض الشركات الهندية استيراد الخام الروسي ضمن عقود طويلة الأمد مع “روسنفت”، ما يحد من مرونتها في مواجهة القيود الأمريكية.

ويرى المحللون أن هذا التطور قد يؤدي إلى انكماش مؤقت في التجارة النفطية بين روسيا والهند، ما سينعكس سلباً على النمو الاقتصادي الهندي وعلى أسواق الطاقة الأوروبية التي تعتمد على الوقود القادم من المصافي الهندية المنتجة من النفط الروسي منخفض الكلفة. وبهذا، يبدو أن الإجراءات الأمريكية لا تصيب الاقتصاد الأمريكي مباشرة، بقدر ما تضرب التوازنات الاقتصادية في أوروبا والهند، وتضعف قدرتها التنافسية أمام الولايات المتحدة.

تحولات القوة في النظام الدولي

في المقابل، ينطلق البيت الأبيض من فرضية مفادها أن الوقت يعمل لصالح واشنطن، إذ يساهم استمرار الحرب في أوكرانيا في إضعاف القوى المنافسة: الصين بسبب اضطراب سلاسل التوريد، والهند بسبب الضغوط المالية، وروسيا بسبب الاستنزاف العسكري والاقتصادي، وأوروبا بسبب الأزمة المرتبطة بالطاقة. بهذا المعنى، تتحول الحرب إلى أداة لإعادة ترسيخ موقع الولايات المتحدة في النظام الدولي، حتى وإن كان ذلك على حساب استقرار الحلفاء.

لكن هذا النهج ينطوي على مخاطر استراتيجية تتعلق بسوء تقدير ردود الفعل الروسية. فقد أثبتت موسكو في مناسبات متعددة أنها لا ترضخ للابتزاز أو الضغوط، بل تميل إلى التصعيد العسكري كلما ازداد الضغط عليها. ومن ثم، فإن سياسة العقوبات والإلغاءات قد تدفعها إلى تكثيف العمليات العسكرية في محاولة لتحقيق مكاسب ميدانية سريعة تعيد لها موقع المبادرة.

من هذا المنظور، يمكن القول إن الولايات المتحدة انتقلت من “حرب بايدن” إلى “حرب ترامب”، أي من سياسة الإدارة المنضبطة إلى سياسة المواجهة الرمزية والتصعيد المحسوب. ويعكس هذا التحول رؤية جديدة للبيت الأبيض تقوم على استخدام أدوات الضغط الاقتصادي والدبلوماسي ليس فقط لاحتواء الخصوم، بل أيضاً لإعادة تشكيل النظام الدولي بما يكرس تفوق الولايات المتحدة في زمن تتغير فيه موازين القوى بوتيرة متسارعة.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *