منذ أول تجربة انتخابية بعد 2003، ظل العراق يسعى لترسيخ تقاليد ديمقراطية تضمن مشاركة حرة ونزيهة، لكن هذا المسار كثيراً ما تعرّض لهزات قوية، أبرزها ظاهرة شراء الأصوات والتأثير المالي، التي تحولت إلى واحدة من أكثر الإشكاليات جدلاً في الحياة السياسية العراقية.
إشكالية شراء الأصوات لم يعد يقتصر على تقديم الأموال بشكل مباشر، بل اتخذ أشكالاً متعددة منها توزيع مواد غذائية أو مستلزمات حياتية معينة في الأحياء الفقيرة قبل وأثناء الحملات الانتخابية، والتعيينات والعقود المؤقتة في مؤسسات الدولة، خصوصاً قبيل موعد الاقتراع، واستغلال النفوذ العشائري عبر تقديم مبالغ مالية أو هبات لزعامات محلية لضمان التصويت الجماعي.
هذه الممارسات تنعكس بوضوح على طبيعة النتائج وتفقد العملية الانتخابية روحها التنافسية الحقيقية، ولها أبعاد سلبية كبيرة، من هذه الأبعاد؛ البعد السياسي حيث يؤدي المال السياسي إلى صعود قوى تفتقر إلى برامج واضحة أو كفاءات إدارية، لكنها تمتلك القدرة المالية على استمالة الناخبين، والبعد الإجتماعي الذي يساهم في ترسيخ ثقافة “المنفعة الآنية” لدى بعض الشرائح، حيث يُختزل الصوت الانتخابي بمساعدة محدودة بدلاً من التفكير بمستقبل الدولة.
في الدورات الانتخابية السابقة، وثّقت تقارير منظمات محلية ودولية حالات متعددة من شراء الأصوات، خصوصاً في المناطق الفقيرة أو الريفية، حيث تُستغل الحاجة الاقتصادية للناخبين، كما أثيرت اتهامات بتوظيف شبكات حزبية لنشر المال السياسي بشكل منظم، مما انعكس على تركيبة البرلمان وخلق حالة من عدم التوازن بين القوى السياسية.
رغم أن القوانين العراقية تجرم شراء الأصوات وتعدّه انتهاكاً صريحاً للنزاهة الانتخابية، إلا أن ضعف الأجهزة الرقابية وقلة الشكاوى الرسمية، فضلاً عن ضغوط القوى النافذة، جعلت من هذه النصوص شبه معطلة، فالمفوضية العليا للانتخابات تبذل جهوداً لرصد هذه الحالات، لكن أدواتها محدودة في مواجهة ظاهرة متجذرة ومعقدة، لذلك أن المواجهة مع هذه الظاهرة تحتاج إلى:
تشديد الرقابة الميدانية عبر فرق المفوضية والمراقبين المستقلين.
تعزيز الشفافية الإعلامية لكشف أي ممارسات مشبوهة أمام الرأي العام.
إقرار عقوبات رادعة تصل إلى إلغاء نتائج المرشحين أو الكيانات المتورطة.
برامج توعية للناخبين تربط بين قيمة الصوت وأهمية الإصلاح السياسي، بعيداً عن المنفعة الفردية القصيرة المدى.
في النهاية نقول؛ أن ظاهرة شراء الأصوات في العراق ليست مجرد تجاوز انتخابي، بل هي تهديد مباشر لمفهوم الديمقراطية الناشئة، وأن استمرارها يعني بقاء العملية الانتخابية أسيرة المال والنفوذ، وهو ما يفقد المواطن ثقته بصندوق الاقتراع، وأن الإصلاح يبدأ من الاعتراف بخطورة هذه الممارسات، والعمل بجدية لوقفها قبل أن تتحول الانتخابات إلى مجرد صفقة مالية لا تعكس الإرادة الحقيقية للشعب العراقي.


