لعبة العوالم الافتراضية في الخطاب السردي المتغير

لعبة العوالم الافتراضية في الخطاب السردي المتغير
ذهب المتخيل ما بعد الحداثي للاشتغال / للانفتاح على التاريخ، أو العالم كما يدعوه ادوارد سعيد، وهذا الفعل يتحول الى لعبة عندما يقوم المؤلف بالاشتغال عليه وعلى: الواقع – الحلم – التخيل. بمعنى ان ذلك سوف يتحول الى ...

ذهب المتخيل ما بعد الحداثي للاشتغال / للانفتاح على التاريخ، أو العالم كما يدعوه ادوارد سعيد، وهذا الفعل يتحول الى لعبة عندما يقوم المؤلف بالاشتغال عليه وعلى: الواقع – الحلم – التخيل. بمعنى ان ذلك سوف يتحول الى خطاب افتراضي سردي، يعمل على بناء السرد الروائي كله، من خلال مد الجسور بين هذه العوالم الثلاث، ومن خلال الازاحة والاحلال والاستعارة، وفي هذا تتخذ متناصات التاريخ والمتخيل وضعاً متشابهاً في إعادة الصياغة للمحاكاة الساخرة للماضي النصي لكل من العالم والأدب.

وإن المحاكاة الساخرة لا تعني الغاء الماضي، إنها تعني الاحتفاظ بالماضي واستجوابه في ذات الوقت. وتلك – مرة أخرى – من مفارقات ما بعد الحداثة. التي تستبدل ” علاقة المؤلف – النص بالعلاقة بين القارىء والنص، أي علاقة تموضع المعنى النصي داخل تاريخ خطاب النص ذاته ” 1. وللعلم ان التاريخ المسرد (ومن ضمنه الروايات التي أصبحت بمثابة تاريخ معرفي – سياسي – اجتماعي) شأنه في ذلك شأن المتخيل، يعيد تشكيل أي مادة على ضوء رؤية الحاضر الآني.

وهذا يدفع بالقراءة ان تقوم باستبطان المعاني الدالة واستخراجها من النص ، لأن المعنى بالأساس هو في العمل ذاته ، وليس خارجه ، وهذا يمنح القارىء إمكانية معرفة ان أي نص هو يستمد معناه ودلالته من خطابات سابقة باعتبار النص جزء من الخطاب العام ، وباعتبار ان ماضي الرواية هو حقيقة من خلال النصوص ، وهذا هنا يكشف لنا صلته بالأدبي ، ونلاحظ كما لاحظت باتريشيا وُوه أن الميتارواية ” لا ترى فقط ان كتابة التاريخ عمل خيالي ، يسَطٌر الأحداث مفهومياً من خلال اللغة لتشكيل عالم – نموذج ، ولكن كون التاريخ ذاته ينطوي – مثل المّتخيل – على حبكات مترابطة تتفاعل فيما يبدو على نحو مستقل عن القصد الإنساني “2 .

ففي رواية ” بنات غائب طعمة فرمان “* لـ الروائي العراقي ” خضير فليح الزيدي ”  ، نعثر على هذا الاشتغال المار الذكر ، وان الرواية تتألف من ” 26 ” مقطعاً ، ومع كل مقطع وضع عنوان ثانوي/ إضافي للعنوان الرئيسي بعد رقم المقطع ، فمثلا : التسلسل 1 يأتي بعده العنوان ” من تراب ” ، التسلسل 10 يأتي بعده العنوان ” غيوم قطنيّة ” ، وتعتبر هذه العناوين من المتعاليات النصية/العتبات التي اهتدى اليها جيرار جينيت مستفيداً من التناص لما سماه بالمتعاليات النصية transtextualité وهي “كل ما يجعل نصاً يتعالق مع نصوص أخرى، بطريقة مباشرة أو ضمنية”3. وهذا المصطلح تجاوز لمفهوم التناص فهو يتسع وفق تصور جينيت ” لمختلف العلاقات النصية التي ليس التناص سوى واحداً منها، وبذلك يغدو التناص مفهوماً فرعياً يشكل مع باقي المفاهيم التي أدخلها جينيت أنواعاً وأشكالاً من المتعاليات النصية”4.

فان عنوان ” من تراب ” يحمل حمولات دلالية – تأويلية، تستند على الترميز والإحالة، مما تعمل هذه الحمولات على اشراك القارىء في المعرفية – الثقافية، حيث يتبين ان ” من تراب “، تعني استدعاء غائب طعمة فرمان من مقبرة العظماء في موسكو.

اما، عنوان الرواية فهو فيه إشكالية ” بنات غائب طعمة فرمان “، لأن غائب لم يخلف بنات غير ابن وحيد اسمه سمير ويعيش في موسكو، هنا نتسأل، لماذا بنات غائب طعمة فرمان؟ وما الذي يقصد به؟  فالروائي خضير الزيدي يتبين انه كان له غاية في هذه التسمية للرواية، ففي مقابلة صحفية عندما سأله الصحفي حسام السراي:

-أيّ معنى يسعى اليه عنوان كتابك ” بنات غائب طعمة فرمان “؟ يرد عليه بجواب غير متوقع.

*جاء هذا العنوان بعد مناقشة فكرية لمرجعياتي الثقافية ودراسة فاحصة لتاريخ الثقافة العراقية ومؤامراته، لهذا كلّه غدت كتابتي لرواية “بنات غائب طعمة فرمان” لتكون محاولة إحياء الأثر الثقافي، فيما الرواية بُنيت على فكرة استحضار فرمان إلى أمكنته الأولى في رصافة بغداد، كما هو استحضار السحرة لـ”شخصية غائبة” عن الوجود.

هذه الفكرة جاءت بعد أن وصلت “مكتشفاً/ باحثاً/ شغوفاً” إلى هيكل بيته الأول في منطقة المربعة وقد أصبتُ بخذلان كبير على هذا الأسى الثقافي والإهمال، فرمان كان مغرماً بالمناطق الشعبية وبشخصيات القاع العراقي فقلت: (فرمان بلا نخلة ولا جيران)، كان حتى في غربته، والتي أخذت نصف عمره، لم يتخلّص من هيمنة الأماكن البغدادية عليه، فماذا لو عاد فرمان إلى بغداد من جديد؟ تلك هي الفكرة الإسقاطية التي بُني عليها العنوان، والحق أن فرمان لا بنات له، وتلك هي مفارقة الرواية.

اذاً، قامت الرواية بناءً وفكرةً على: ماذا لو عاد فرمان الى بغداد من جديد؟.

منذ اول جملة إخبارية يخبرنا الراوي العليم بموت الروائي غائب: (على حائط المسجد علقت لافتة قماش سوداء، خٌطّ عليها: ” يشارك أبطال الروايات العربية أبناء عمومتهم من أبطال الروايات العراقية الثماني في هذا المصاب الجلل لموت مؤلفها غائب طعمة فرمان، سائلين المولى المغفرة والرحمة لروح الفقيد ” ص 9).

ثم يأتي بعد هذا المقطع الاخباري مباشرة مقطع أخر ينفي مضمون الأول وما جاء به: ” والحقّ أنّه لا يوجد فقيد ولا وفاة مسجلة رسمياً، ولا هم يحزنون. فقد أشبع المؤلف موتاً – ص 9″. ثم يعود لكي يؤكد موت المؤلف غائب الآن مرة ثانية بصيغة الاستفهام ” كيف يقام على امتداد ثلاثة أيام مجلس عزاء رسمي على روح المغفور له السيد كاتب الروايات البغدادية ” غائب بن طعمة بن فرمان بن رزوقي “؟ – ص 9 “.  هنا، اصبح لدينا ثلاث اخبار متتالية: تأكيد الموت – نفي الموت – تأكيد الموت،ما هذه اللعبة؟!.

انها لعبة التخيل المُبدع الذي وظفه الزيدي في تناوله لواقع فرمان الحقيقي الذي اصبح تاريخاً أدبياً ولشخصيات رواياته الخارجة من باطن الروايات من رؤية غير مألوفة وفعل غير عقلاني، مما يعني أن هنالك شكاً في عالم الرواية إن كان ينتمي إلى الواقع أم يرفضه، وفي نفس الوقت هو معالجة ابداعية خارجة عن المألوف للواقع المعاش، حيث تُعد الفانتازيا / التخيل نوعاً أدبياً يعتمد على السحر وغيره من الأشياء الخارقة للطبيعة كعنصر أساسي للحبكة الروائية .وهنا جاء المتخيل كوسيلة لتفسير وتحليل وكشف الواقع الذي يتميز عنه.

لقد كانت هناك قصدية عميقة في تاريخ عودة غائب من قبل الروائي الزيدي، حيث جعله يعود في نيسان من عام 2006م، بينما هو في الواقع رحل عن عالمنا يوم 18/اب /1990م. وهذه العودة تكون في عام الموت، عام القتل المجاني، أن الواقع الذي مر به العراق في هذه الفترة يعتبر مفارقة سريالية، وذلك في العمل على الغاء الآخر المختلف معه في الرؤية، والفكر والمعتقد، والهوية والقومية. لذا التجاْ العقل العراقي المقاوم بدرجة لا تصدق الى عوالم متخيلة متكاملة، لحمايته من الواقع، عليه يمكن أن يكون الخيال أكثر واقعية أكثر مما نتصور بكثير، حتى أكثر فنتازيا، وهذا يذكرني بعودة بطل رواية ” المخاض ” كريم الغزال، ليجد محلته القديمة قد قامت ثورة تموز بإزالتها من مكانها، لذا يقوم غائب بتسمية ” الثورة … أنا اعتبرها مخاضاً “5. لقد كان غائب يبحث عن شيء محدد مفهوم لديه هو البحث عن الثورة الصائبة للسير في الطريق القويم، وهذا ما افتقده عند عودته للوطن، فبدأ البحث عن الثورة الضائعة في رواية المخاض.

وفي رواية ” بنات غائب طعمة فرمان ” تصل المحاكاة الساخرة الى ذروتها عند خضير الزيدي عندما يحاكي فيها أسلوب غائب الذي يستخدمه في رواياته بتهكمية تثير الضحك والسخرية، هنا نجد الروائي شأنه في تقليد الأساليب، يتحدث بواسطة كلمة الاخرين ” الكلمة تتحول الى ساحة لصراع صوتين اثنين. ولذلك ففي المحاكاة الساخرة يتعذر امتزاج صوتين، بينما يكون ذلك ممكنا في تقليد الأساليب “6، عند حواره مع ضابط الجوازات:

وفي اثناء وقوفه أمام الضابط بلغت مثانته ذروة قدرتها على التحمل، فما عاد يٌطيق صبراً وطفق يفرك عضوه بقوّة ويقرصه من رأسه مؤدباً، كي لا يفلت شلال البول ويفضحه أمام السيد الضابط والأشخاص الواقفين خلفه. وفي كلَ لحظةٍ يحني ظهره ويرفع قدمه، ثم ينزلها ليٌلجم قطرات البول المتدافعة. لكن كلّ مٌحاولاته باءت بالفشل، فتسربت بعض القطرات بالفعل، واشتدّ التهديد.

-في أغلب الأحيان أنا لا أشبه نفسي يا سيدي. أنا محصور جداً.

– ” أنا لا أشبه نفسي! ” هذه جملة من لغة المثقفين. والأهم عندي أنّ صورتك لا تشبه شكلك الحاليّ. أليس كذلك يا سيد غانم؟

– غائب يا سيّد.. ربّما.. فالبشر لا يٌشبهون صورهم الا نادراً.

–  أنا كاتب. وهذا خير ما يٌمثلني.

– كاتب عدل؟ أم كاتب عرائض؟ كاتب ماذا ياسيّد؟

– لا طبعاً. أنا كاتب روايات عراقية.

وبينما هو غارق في أفكاره سأله الضابط مرّة أخرى:

-من أي منطقة أنت يا سيّد؟

– من جمهورية المربعة. ص 19، 20 ، 21 .

ان كلمة المحاكاة الساخرة يمكن ان تكون متنوعة لدرجة كبيرة يمكن ان نحاكي محاكاة ساخرة أسلوب الغير بوصفه اسلوباً. يمكن ان نحاكي محاكاة ساخرة طريقة نموذجية على المستوى الاجتماعي أو شخصية على المستوى الفردي، طريقة في الرؤية، في التفكير، في الكلام “7.

والملاحظ في رواية ” بنات غائب طعمة فرمان “، هي نتاج تداخل الأنواع والاشكال الأدبية المختلفة جميعها والتي كانت موجودة قبلها، ومنها الفنتازي والغرائبي واللامعقول، لأنها أي الرواية ” هي التجسيد الأعلى للعبة التداخل النصي. وهو النوع الذي يعطي تنوع الملفوظات حيزاً واسعاً للعمل “8. وليس ذلك فحسب، بل ان كل رواية ” هي نوع بذاتها. كل رواية هي كينونة فردية، وهنا بالذات يكمن جوهر الرواية “9.

إن الشخصيات المهمة في الرواية هي: الغائب الحيّ ” غائب طعمة فرمان ” – المحامي جبر الشوك – دلال البيرقدار الابنة الصغرى – المثقف الهامشي هاني بارت.

أن الغائب الحيّ هو الروائي العراقي غائب الذي رحل في 18 اب 1990م في موسكو ، ولكن بطريقة لعبة الاستعارة المبنية على المخيلة – الفنتازية ، يقوم الزيدي باستدعائه افتراضياً وذلك في نيسان عام 2006م ، بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بثلاث سنوات ، بحيث يجعله في مواكبة مشاهدة وظهور المتغيرات الاجتماعية – السياسية – الأخلاقية الخطيرة جدا ، التي ترسخت وتفشت في المجتمع العراقي ، وهذه المتغيرات تفاعلت في المجتمع ، وكانت انعكاساتها فظيعة ومأساوية ، والضربة القاصمة كانت حينما سلم المحتل الأمريكي ، حكم العراق الى الأحزاب الدينية التي تمثل عقلية القرون الوسطى التي تقدس الغيبيات والضلالات والدجل ، وما فعلته بالبلد من دمار وخراب وقتل وحروب طائفية ، ومجاعة متفاقمة ،وانتشار لظاهرة ” تحت مستوى خط الفقر ” . والعمل على تعميم الامية وترسيخ الجهل ونشر اللاعقلانية التي تقدس الخرافات والشعوذة لتحل محل الثقافة العلمية والمعرفة الرصينة والعلم. وهذه الصورة الغارقة في الظلامية واللإنسانية ، يحاول الزيدي مقارنتها بزمن الخمسينيات والستينيات ، زمن رواياته المكتوبة في تلك الأيام – رغم ان كل الروايات كتبت في المهجر الروسي – ورغم ان ابطال غائب يبقون من حصة غائب ، الا ان الروائي غائب يصبح هنا من حصة الروائي خضير الزيدي في هذه الرواية للأخير. نعم، ان بعض شخصيات غائب الروائية: تحتج، تعتب، تصرخ، تبكي، تحاول اغتياله. لكنها تبقى ورقية ، بعكس خالقها غائب / الإنسان ، الحقيقي ، الذي جاء بناءً على طلب ابطال رواياته لتصحيح أوضاعهم الوجودية ، بعد ان غادروا عالمهم الورقي الذي بنائه لهم غائب الى العالم الواقعي المفترض في رواية الزيدي ، وهذا التقاطع يظهر لنا بوضوح مدى الاختلاف بين العالمين في العالم الأصلي الورقي الذي خلقه غائب وبين العالم الافتراضي الذي يخلقه الزيدي ، وكذلك يظهر الاختلاف في التوجه ، وفي الغاية ، وفي المعالجة ، وهذا ما اكد عليه الزيدي عندما وضع مقولة غائب في بداية روايته في العتبة ” بنات غائب طعمة فرمان ”  التي هي ” يموت الكاتب عندما يٌنسى ….” تحمل الكثير من الاحالات والتأويلات المتناسلة من الواقع والمجاز عند الدخول اليها:

وحالما تمكنت تلك الشخصيات من اختراق حاجز عزلته والتجمع قرب راسه شرعت تتوسل باكيةً مما حصل لها وما يزال يحصل كل يوم في جمهوريةٍ مٌتداعيةٍ. فتكلم مصطفى الدلال بانفعال قائلاً ” شوف عيني أستاذ غائب، صحيح أرواحنا بيدك وانت تحيي وتٌميت، لكن بالورق بسّ. خلقتنا من حبر ونفخت فينا الروح، وسفة عليك سجنتنا بين دفات الكتب ” ص 68. وفي الأخير يتبين لنا ان المحبوس الفعلي في الرواية هو الروائي غائب طعمة فرمان وأبطال رواياته : سليمة الخبازة – حمادي العربنجي – تماضر – مصطفى الدلال – كريم الغزال – السائق نوري – المثقفين الخمسة – زنوبة – دبش الخ ، الذي عندما عاد من سفرته الأبدية ، رفض الوضع الوجودي الذي يعيشه العراق بشدة ،مع ادانة لكل ما يحدث ، لذا اصبح افضل له ان يكون ” حبيس الحجر المنتصب في ساحة الوثبة – 68 ” ، من ان يكون متعايش مع هذا الخراب والمأساة ، وهنا تبرز لنا دلالة التمثال التي تحيلنا الى الوضع العراقي برمته ” ومضت الى النصب الذي تأجل تدشينه اكثر من عامين جراء الخلافات الحادة من أهميته وجدواه – 58″ .

اما المحامي جبر الشوك، فأنه شيطان رجيم، قصير القامة، حليق اللحية ” ص 41 “، منافق، جشع بحيث كان يستقطع من الإيجارات مرتباً بحجة انه للحارس المصري بينما هو لنفسه الدنيئة، وكان يحاول ” إقناع دلال بأن كاتب رواياتها المفضّل السيد غائب لم يمتْ بذلك التاريخ المعلن. وإن كل ما حدث هو إعلان مزيف عن موت المؤلف. فهو حي يرزق وسيزور بغداد قريبا – ص 61″. وانتهازيته لا حدود لها، فهو ” لم يكن شيوعياً، ولم يكن بعثياً، ولا إسلامي الانتماء، كان يصلي صلاة العيد ويستمع بخشوع الى الخطبة، ويحضر الصلاة كل يوم جمعة – ص 69″. ورغم كلّ هذا ” هو لا يشرب الخمر، ولا يدخّن، ويحب الحياة حباُ جماً- ص 70″.

واما دلال ابنة عبدالرزاق البير قدار، ولعائلة البيرقدار عقارات متفرقة ومنها مصنع القطن في اطراف الشورجة ، وهذا المصنع ” هو الذي عٌثر في طابقه الثاني على جثّة السيد عبدالرزاق البيرقدار – ص 47″ . فهي مدمنة على قراءة روايات غائب طعمة فرمان، وعاشقة لها، لأن ” القراءة العميقة فعل إبداعي يٌضاهي الكتابة. فمشقّة القارىء، وهو يسبر غور الكتاب، توازي مشقّة الكاتب في اثناء الكتابة – ص 53″. ذات مرة تسأل هاني بارت لماذا تبحث عن غائب طعمة فرمان؟ وعندما يعجز عن الجواب، تخبره عن السبب وذلك لكي يكمل غائب ما بداه في مخطوط الرواية غير المكتملة، المخطوط الذي تركه في مصنع القطن عندما غادر العراق، وعليه تكلف بارت بالبحث عنه وايجاده ليكمل روايته الأخيرة التي عنوانها ” بنات غائب طعمة فرمان “، ولكنها لم تخبر بارت بأنها هي ” بطلة تلك الرواية، وبأن موضوعها ما جرى لها ولأختيها بعد وفاة أبيها – 131″.

ونرى هاني بارت ليس لديه تصور للتغيير ولا تصور سياسي ولا رؤية للخلاص ، رغم امتلاكه لثقافة حديثة ، فالمثقفين اشباه هاني بارت يعيش الواحد منهم بين نقيضين ، حالة الانتماء والاغتراب في وقت واحد ، ولكن حالة الاغتراب تكون هي المسيطرة ، وشعوره بالاغتراب يتزايد بسبب ما يحيط به ، أي عدم التمكن من الاندماج والتألف مع المجتمع ، وهذا يقود القارىء الى معرفة ما بين السطور من ادانة مخفية وسخرية مبطنة للوضع القائم ، وهنا يكون الروائي خضير الزيدي متحيزا ” لعلاقة الخارج المحكوم بالنص المتحرر الخاضع للجدل المفتوح بين النص والتاريخ . اكثر من علاقة الداخل المحكوم بالنص المقيد الخاضع للجدل المغلق بين النص وذاته ” 10.

وهو عضو في جمعيةٍ لغوية تدعى ” بيتنا ونلعب به “، ومن أهداف الجمعية هتك قدسية اللغة في سبيل مشروع حداثي يعمل على تفجير اللغة الإشارية / العلامتية، والمفارقة في هذه الجمعية ان كل المنتمين هم من: المثقفين الهامشيين، الكتّاب المغمورين، باعة الصحف، المهتمين باللغة ومسائلها الخلافية، والصحفّيين المطرودين.

وكما يستدعي ابطال روايات غائب خالقهم ذاته، يستدعي هاني الناقد الفرنس ي رولان بارت ذاته من الموت ايضاً، وهذا الاستدعاء يضعنا امام كتابة تجريبية تخيلية تأويلية، لأن في الحقيقة كل تجربة هي تجربة تأويلية، وهذا قد يفتح النص على مغامرة قرائية – تأويلية ايضاً، وذلك بلعبةٍ سرديةٍ افترض فيها هاني أنّ رولان بارت حلّ ببغداد:

-زار بارت العاصمة بغداد بدعوةٍ من جمعية لغوية ناشئةٍ، التمست منه إلقاء محاضرةٍ ضمن ندوةٍ مٌخصصةٍ للنظر في علم العلامات، وقد انتهز صاحب الهسهسة الفرص للتجول في سوق الهرج بمنطقة الميدان، وحين جلس الناقد الفرنسي ليشرب الشاي المحلى في مقهى الزهاوي هاجم لغة محمد جميل الزهاوي الخرقاء في شعره، ثم غادر بارت بغداد بعد ان ودّع مريديه من كتّابٍ ولسانّيين جددٍ في المطار.

– لكن بارت توفّي قبل هذا الوقت يا أخ هاني.

علقت دلال بتلك الكلمات لتٌفهم هاني أنها خبيرة بشؤون الثقافة لكنّه رد ببرود:

– وغائب طعمة فرمان مات قبل هذا الوقت أيضاً. الموتى الرموز يبعثون مٌجدداً يا سيدتي. ص 93.

وكانت مهمة هاني بارت الوحيدة هي البحث عن الروائي غائب طعمة فرمان، والعثور عليه باي ثمن، وعندما تسأله:

-وماذا عن قبول المهمّة؟

– أنت تحتاجين حفار قبول لمهمتك ستّ دلال وليس لكاتب مغمور. الروائي توفاه الله في عام 1991. فكيف لي أن أبحث عنه ورفات قبره تلاشى، وعظامه أصبحت رميماً في إحدى مقابر موسكو.

– من تتحدث عنه حيّ يٌرزق هنا في بغداد. ابحث عنه وستجده. ص 97.

ورغم اطلاع دلال على كل هذه المعلومات واخبارها بكل الحقائق تبقى مصرة على ان غائب موجود في مكاناً ما، حيث يصل الامر بدلال الى ان تقبل ب هاني كي يسافر معها الى خارج العراق على شرط واحد فقط الذي هو جلب الروائي غائب طعمة فرمان ، وهذا الامر مستحيل تحقيقه لان غائب نزيل مقبرة العظماء منذ عام 1990م في موسكو ، وهنا يصبح المتخيل الادبي شكل من أشكال اللعب الفنتازي ، الذي يؤدي بالقارىء الى العمل على اكتشاف دور المتخيل في الحياة ، وعلى اكتشاف ان ما نطلع عليه هو ليس الواقع، بالإضافة الى ذلك كلما قلّتْ معرفتنا زادت متعتنا :

-هناك شرط واحد فقط.

– سانفذ قبل ان اعرف.

– تحضر لي العم غائب بأية طريقة. هذا مهري. مخطوطة رواية ” بنات غائب طعمة فرمان” لا تكتمل إلا بحضوره الروحي – ص 191.

واخيراً. أقول ان الاختلاف الوحيد بين المتخيل الأدبي والواقع هو أن المتخيل الأدبي مبنى كليةً بواسطة اللغة مما يسمح بشيء من الحرية. إنه يعني على سبيل المثال أن:

هؤلاء البشر ليسوا حقيقيين. أنا اصنعهم في اثناء عبورهم، وسوف يٌستبعد أي جزء يهدد بتجسيدهم أو يدفعهم الى؛ مغادرة الصفحة؛ يتعين عليهم بالأحرى أن يمشوا في الصفحة، ويتشتتوا، ويختفوا .11

وهذه الجمل التي قرأناها في الاسطر السابقة، سوف تفتح لنا باباً للولوج الى مكامن اشتغال  سردية رواية ” بنات غائب طعمة فرمان” ، السردية التي كانت طيلة صفحات الرواية ، تضمر الكثير وتعلن القليل ،الاسئلة أكثر من الأجوبة، علامات الاستفهام أكثر من علامات التعجب، والجواب يتحول الى سؤال ، لأن الحقيقة عند الروائي خضير الزيدي بإمكانها ان تصبح مادة للرؤيا الإنسانية النابضة بالحياة .

” -أنا كاتب …وكلّ هؤلاء شخصيّات في روايتي الجديدة. بما فيهم أنت والعون الذي سيطرق الباب بعد لحظات، رفقة محام يحمل لك وثيقة عن حقيقة هويّتي – ص199″.

وهذا يجعلنا نتسأل من هو مؤلف رواية ” بنات غائب طعمة فرمان “، هل خضير فليح الزيدي أم غائب طعمة فرمان أم هاني بارت ؟.

 الهوامش والاحالات

*خضير فليح الزيدي – بنات غائب طعمة فرمان ( رواية ) – منشورات ميسكلياني ، تونس العاصمة/ تونس ،و دار ضمّة للنشر والتوزيع ، الجزائر/المسيلة – سيدي عيسى ، 2023م . لذا ستكون جميع الاقتباسات في الدراسة من الرواية وسوف اشير الى رقم الصفحة فقط .

1.ليندا هتشيون – الميتارواية التأريخية ، ترجمة : السيد إمام ، مجلة فصول العدد 98 شتاء 2017م ، القاهرة ، ص 151.

2.م . ن . ص 153.

3.سعيد يقطين – انفتاح النص الروائي ، ط2،المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء/المغرب ، 2001م ، ص 96.

  1. سعيد يقطين – من النص الى النص المترابط ، المركز الثقافي العربي ، الدارالبيضاء /المغرب ، 2005م ، ص 95.

5.غائب طعمة فرمان – المخاض ” رواية ” ، منشورات مكتبة التحرير ، بغداد 1974م . ص 280 .

  1. م . ب . باختين – ترجمة : الدكتور جميل نصيف التكريتي ، مراجعة : الدكتورة حياة شرارة ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد / العراق ، 1986م ، ص 282.
  2. م . ن . ص 283.
  3. ميخائيل تودوروف – ميخائيل باختين المبدأ الحواري، ترجمة: فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت / لبنان، ط2، 1996م، ص 162.
  4. م . ن . ص 163.
  5. أسامة غانم – غائب طعمة فرمان :الحاضرفي الذاكرة الذهبية ، دار أزمنة للنشر والتوزيع ، عمان / الأردن ، 2009م ، ص 48.

11.باتريشيا وٌوه– الميتافكشن: المتخيل السردي الواعي بذاته: النظرية والممارسة، ترجمة :السيد إمام ، دار شهريار ، البصرة /العراق ، 2018م ، ص 112.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *