صدر للشاعر مهدي القريشي عن دار الشؤون الثقافية العامة ، ديوانه الشعري الموسوم ” الكتابة على زجاج مهشم ” عام 2024م ، لقد لعبت اللغة في قصيدة النثر التي يكتبها القريشي دوراً مهماً جداً ، من حيث المحتوى والشكل ، ومن حيث انها متحررة من كافة المقدسات ، ومن خلال هذه اللغة استطاع المتلقي أن يميز بين شعرية اللغة وشاعرية النص ، وجماليته ، ونرى في هذه القصائد كم اعطى الشاعر من الأهمية القصوى للغته الشعرية في تكلّم الشعر ، الذي يفتح فضاءً له ايضاً ، وبهذا المعنى ” يمكن عد اللغة أفقاً لأنطولوجيا هرمينوطيقية . فالخبرة التأويلية ، بمقتضى اللغة ، هي تعين إحلال المؤول محلُ الفنان ، أو المؤلف ، أو الشاعر”1. وهكذا عندما تتكلم اللغة ، فإنها تتكلم المعنى . والمعنى هنا مكمل للفهم الذي ينتج عن التأويل .
إن اللغة الشعرية في اثناء اشتغالها على اللغة وبناء الصورة الشعرية ، تنقل اللغة من الوظيفة التفاعلية القائمة على الوضوح الى الوظيفة الشعرية القائمة على الإبهام والتضليل الدلالي ، أي أن الشَعرية تعمل على نسف وهدم الوظيفة التفاعلية للغة كوسيلة نقل معرفية ، وليس هذا فحسب ، بل إنّ من انجازات الشَعْرِيَة المهمة جداً ، هي انفتاح النصوص الأدبية على التأويل مع المحافظة على خصوصية كل منهم والتمتع بجماليته والتركيز على أوجه الاختلاف فيهم ، وبما أن اللغة بنظر التأويل هي دائماً موضع تساؤل ، وخاصة اللغة الشًعرية التي لا تفصح عن نفسها إلا من خلال الرموز والمجازات والاستعارة ، لكون موضوع الشَعْرِية ليس الشعر وانما الوظيفة الشعرية وخصائصها .
وتهدف قصيدة النثر الى أن تذهب الى ما هو أبعد من اللغةْ ، وهي تستخدم اللغة ، وأن تحطم الشكل وهي تخلق أشكالاً ، وأن تهرب من الأدب ، وها هي ذي تصبح نوعاً أدبياً خاضعاً للتصنيف . وهذا التناقض الداخلي ، وهذا التعارض الأساسي هو ما يمنحها طابع الفن الإيكاري ، الطامح الى تجاوز مستحيل للذات ، والى نفي شروط وجودها هي نفسها ، لتصبح – دون شك – نموذجاً واضحاً لجهود كل الشعر الفرنسي “2. وليس ذلك فحسب ، بل تذهب الناقدة سوزان برنار الى تسأل مخيف، يدور حول قصيدة النثر ، لتجيب هي عنه في اللحظة ذاتها ، هل ” يمكن القول بأن ” رمية نرد ” قصيدة النثر ؟ بالتأكيد ، لا “3.
ونجد في صور القريشي الشعرية الواقعية الممزوجة مع المخيلة المتطرفة ، في تكوينات مذهولة من نفسها ، منفلتة من حدودها ، مندهشة من ذاتها ، تجارب وجودية متحولة الى غرائبية – سينمائية عالقة ما بين الحلم والواقع اليومي :
منذُ طفولتِهِ كان يقضم الوقت
من أطرافِهِ فيتأخر عن اخوتهِ في الالتحاق بدوام المدرسةِ
وحين تتراكم الأسئلة عنه تتمزق أوراق دهشتهم
كونه يضيع في هدوئه
أو قد يكون معلقاً في ضفيرة أنْثَى .
ومن خلال النقد الثقافي بالاستطاعة قيامنا في دمج الشَعْرِيّة التي تشتغل بفاعلية على دراسة الخطابات المتواجدة في النص ، بالعملية التأويلية التي تعمل على إعادة بناء النص ، عندئذ تتحقق لنا إمكانية العبور الى الصورة الشعرية من خلال هذا الدمج ، ومعرفة المراجع التي تستمد منها الصورة التي هي : معرفية – جمالية ، وتحرير الطاقة الشعرية المبثوثة في النص لفتح آفاق التعدد الدلالي وتعدد المعاني ، والتأويلات المختلفة ، هذا كله يؤدي بنا الى الفهم ، وهنا الفهم يعني استيعاب المعنى ، يعني رؤية الصورة بشكلها الحقيقي ، التي تقودها الرموز – الدلالية :
من حقِكَ أن تحلم / بعد ان اضرمت الصمت في فخاخك /
ومن حق الاشجار ان تفقد اصابعها / بعد ان تتوضأ العصافيرُ بسعالِ
الحشائش /
ومن حقِ امرأة طحنتها الحروبُ ،
تصدرُ جثثاً طازجةً / وان تملأ جرتها اغاني يهدهدها غزل اليقظةِ /
جرار تحتضن جذوراً ملكية / والصباحات ممتلئة بالمقابر/
والمقابر تشكو جفاف التراتيل / والتراتيل معلقة بالبنادق /
والبنادق معبأة بفضلات الاسلاف /
من يتبرع بقشور البخور ولون الكافور وماء النيلوفر للمسكين الجالس
في باب الله ؟ / .
وضع القريشي عنوان مجموعته ، بقصدية ملفتة ” الكتابة على زجاج مهشم ” ، لماذا ليس الكتابة على الورق أو على لوح طيني ، أو شيء آخر ، الا على زجاج ومهشم ، هنا ، يحاول الشاعر خلق إبهام وغموض باطنيّ ، بدلالات تتداخل فيما بينها : المعرفية – الثقافية – الفلسفية ، تعمل على تشكيل صورة غير الصورة الظاهرة ، صورة مليئة بالشفرات البنيوية ، ان العنوان في النص يعتبر العتبة الأولى له ، وبتفكيكه نستطيع إضاءة النصّ كله .
القصيدة تستحم بأنفاس الريح فتعريها الا من الدهشة
وبقليلٍ من القلق وعكازٍ يأخذ بيدي الى باب الشعر .
يتقافزُ الليلُ من نجمةٍ الى أخرى فترفضه الفكرة .
يتشبث الشتاء بمعطفهِ ويخيط انكساراته بإبرة المعنى
لعل النافذة تستدرج آخر الاحتمالات وتفوز بالحلم .
اين سيكون العنوان في مواجهة الكلمات تلك ، وهل ستكون المفاتيح لفتح الابواب المظللة بالضباب الداكن : الدهشة – الشعر – الفكرة – المعنى – الحلم . الدهشة مع الشعر ، والفكرة مع المعنى ، والكل ينتظر الحلم . لذا هل ستفوز النافذة / الواقع بالحلم رغم انها آخر الاحتمالات اللامحسوبة .
ففي نصوص ” الكتابة على زجاج مهشم ” ، نعثر على الكثير من الاشتغالات المتداخل فيها الرمز بالواقع ، بدلالات تأويلية متعددة القراءات ، ولعلّ تعَمُّدَ النقّاد حصر الرّمز في مجال الشعر وبلاغته ، يشكل عائقاً يَحُولُ دون صَوّرهم لمفهوم واضح للرّمز ، ” اذا نجدهم يدورون حول المعنى ولا يمسكون به ، فكأنهم يبحثون عن الرمز في البلاغة لا في بلاغة الرمز ، لذلك كان الرمز عندهم فرعاً من اصل في حين انه قد يكون اصلاً لفروع البلاغة “4:
سَخَرتُ من الغمامةِ المنفلتة من غيمةِ إمرأة خمسينية
يخلو خنصراها من خاتم ، بينما الهواء يعبيء ما بين ساقيها ويخرج
رطباً .
جافُ هذا الكتاب الذي بين يدي
( لا ملحدين في وكر الثعالب ) هذا قول مأثورْ
اذن دعوني اتفلسف ،
لا جميلة في حضن الرب ،
لا مهبل بدون قطار ،
ولا قطار بدون شهوة الاندفاع
لا ابليس بدون كهنة ولا كهنة بدون خطايا .
جسّد القريشي في قصيدة النثر التي يكتبها ، الحداثة الشعرية ، فكانت نصاً حداثياً بامتياز ، بسبب ايمانه بالحرية في الاشتغال على كافة الاصعدة وعلى كافة المستويات : التركيبية – الايقاعية – الدلالية – التشكيلية ، الذي منح القصيدة التمايز والاختلاف والمغايرة عنده ، وخاصة في ” الكتابة على زجاج مهشم ” ، وهذا ما نعثر عليه في نص ” مكائد الضوء ” الذي يفضي الى التشكيل الصوري لفضاء النص ، والكشف عن اعماق الإنسان وغنى تجربته :
لا تثق بالضوء ان توسعت خطواته
أو انزلقت تحت قميصك الموشى
بالوعود .
كأنك تريد ان تنهي اللعبة التي ابتدأنا يوم كنتُ أنا الضوء
وانت الظل
لم تكن خطواتي بإتجاه الظن / ولا ظن
لان الضوء يراه الناظر عبثاً .
أراني اقبض على صلصال الضوء
أراني ابحث عنك
فالطريق طويل والمكوث في المرايا فخاخ
لا صطياد الدهشة والذهول
هنا ، في نص ” مكائد الضوء ” تكررت كلمة ” الضوء ” سبع مرات ، والقارىء بدوره يتسأل لماذا هذا التركيز على كلمة الضوء ؟ وعند تفكيكنا لجملة ” مكائد الضوء ” ، المكيدة جمع مكائد : حيلة . خفية خادعة للتغلب على منافس، دسيسة . أما الضوء : ما تضاء به الاشياء . نور . ولو علمنا ان الضوء استعمل كرمز فعال لنقل معاني أعمق عبر التاريخ ، لأن الضوء يرتبط بالتنوير والوضوح والحقيقة ، فما الذي اراد ان يقوله الشاعر للقارىء من خلال جمعه لكلمتين متعارضتين : حيل النور ، التي هي بالحقيقة ملحقة بالعنوان ” الكتابة على زجاج مهشم ” ، الذي يحتوي على الاستحالة ، والمفارقة ، والتناقض :
الاستحالة : الكتابة على زجاج مهشم .
المفارقة : الكتابة على لا شيء .
التناقض : كتابة / مهشم .
فالشاعر هنا يتلاعب بكلمة ” الكتابة ” ، عندما يحول معناها اللغوي الى استعارة – رمزية ، ليس ذلك فحسب ، بل يقوم بتغيير وظيفة ” الكتابة ” الحقيقية الى وظائف دلالية متعددة ، وقراءات مختلفة حسب استيعاب المتلقي وتراكماته الثقافية ورؤيته الوجودية ، في تأويلية ” مكائد الضوء ” وفي ” الكتابة على زجاج مهشم ” .
قصيدة النثر عند مهدي القريشي ، قصيدة تتفجراً ابداعاً ومغايرة في تفرد متميز ، وهو يهتم بها اهتماماً كبيراً ، حيث جعله هذا في خانة التجديد المستمر من حيث الشكل والمضمون ، ففي قصيدة ” تنازع ” يعمل على تناول اسئلة وجودية وميتافيزيقية في ذات الوقت وعلاقتهما ببعضهما ، ولا يوجد وراء هذه الاسئلة الا الصمت ، والفراغ ، لان هكذا اسئلة تحتاج الى فهم لطبيعة العلاقة بين الإنسان والكون ، وبين الإنسان والله ، رغم ان هذه الدلالات تدل على معانٍ ، تشير بطريقة خفية الى عمق الوجود وعمق الحياة :
هل نحن حقاً على قيد الحياة ؟
رغم ان عصارة الأوكسجين
تترنح في افواه الفقراء
وتخجل من الدخول الى الرئتين .
امشط لحية القدر
من اجل الفوز بفجرِ
خالٍ من مقبرةٍ
داخ بها الأحياء …
هل يعرف الله
اننا على قيد الحياة ؟
حتى يرسم انا أقدارنا .
هل باستطاعته ردم العثرات
الطافحة بالمعصية ؟ .
الهوامش والاحالات
1.ج هيو سلفرمان – نصيّات : بين الهرمنيوطيقا والتفكيكية ، ترجمة : حسن ناظم و علي حاكم علي ، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء / المغرب ، بيروت / لبنان ، 2002م ، ص 51 .
2.سوزان برنار – قصيدة النثر: من بودلير حتى الوقت الراهن ، ج1، ت : راوية صادق ، مراجعة وتقديم : رفعت سلام ، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 2020م ، ص 33.
3.م . ن . ص 386.
4.المنجي بن عمر – الرمز في الرّواية العربية المعاصرة ، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية ، برلين / المانيا ، 2021م ، ص 23.


