مصطلح “الشرق الأوسط”: وتحرير اللغة من إرثها الكولونيالي

مصطلح "الشرق الأوسط": وتحرير اللغة من إرثها الكولونيالي
يُعد مصطلح "الشرق الأوسط" نتاجًا للفكر الكولونيالي، يكرّس الهيمنة الغربية ويعيد إنتاج المركزية الأوروبية. التحرر المعرفي يقتضي تبنّي تسميات جغرافية أدق كـ"غرب آسيا" و"شمال إفريقيا"، لتعزيز خطابٍ مستقل وهوية إقليمية بعيدة عن إرث الاستعمار...

أصول المصطلح ودلالاته الكولونيالية

تُعد اللغة أداة أساسية في تشكيل الوعي وبناء التصورات عن الذات والآخر، ولعل مصطلح “الشرق الأوسط” يمثل نموذجاً صارخاً للكيفية التي تُسخّر فيها اللغة لتكريس هيمنة سياسية ومعرفية. فهذا المصطلح لم يولد في سياق محلي، بل تمت صياغته في إطار استعماري بحت، حيث ارتبط ظهوره بمخططات القوى الكبرى لإعادة ترتيب الجغرافيا السياسية بما يخدم مصالحها الاستراتيجية. تُظهر الدراسات التاريخية أن الاستخدام المبكر لمصطلح Middle East ارتبط بالاستراتيجي الأمريكي ألفرد ماهان في بدايات القرن العشرين (1902)، في سياق حديثه عن أهمية الخليج العربي كممر بحري حيوي. ثم جرى توظيف المصطلح على نطاق أوسع من قبل المسؤولين البريطانيين، وعلى رأسهم اللورد كرزون، الذي استخدمه في سياق تقسيم مناطق النفوذ بين بريطانيا وروسيا القيصرية في آسيا. منذ ذلك الحين، أخذ المصطلح مكانة مركزية في الخطاب السياسي الغربي، لأداة لتأطير المنطقة في سياق التبعية لا الاستقلال. إن خطورة المصطلح تكمن في كونه ليس مجرد توصيف جغرافي محايد، بل إطاراً معرفياً – خطابياً يعيد إنتاج المركزية الأوروبية. فالمناطق لم تُسمَّ وفقاً لهويتها الحضارية أو الجغرافية، بل وُصفت تبعاً لموقعها “شرق” أوروبا و”وسط” آسيا الاستعمارية. وبهذا المعنى، يندرج “الشرق الأوسط” ضمن منظومة أشمل من المصطلحات التي أنتجها الفكر الكولونيالي، مثل “العالم الثالث” أو “الدول النامية”، وهي جميعها تنطوي على شحنة معيارية تُرسّخ صورة هرمية للعالم.

تحرير اللغة: نحو بدائل معرفية مستقلة

لقد كان للمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد دور محوري في كشف هذه الأبعاد في كتابه الشهير الاستشراق (1978)، حيث بيّن كيف صاغ الغرب صوراً نمطية عن الشرق، ليس بوصفها انعكاساً للواقع، بل كآلية للسيطرة وإعادة إنتاج الهيمنة. فالشرق الأوسط، بهذا المعنى، ليس فقط جغرافيا، بل اختراع استعماري يُراد له أن يبقى إطاراً معرفياً يوجّه السياسات والخطابات حتى بعد انتهاء الاستعمار العسكري المباشر. من هنا، فإن إعادة النظر في هذا المصطلح لا تنفصل عن مشروع أوسع لتفكيك اللغة الكولونيالية وبناء بدائل معرفية. فبدلاً من “الشرق الأوسط”، يمكن استخدام تسميات أكثر دقة وحيادية مثل “غرب آسيا” و”شمال إفريقيا” أو حتى “آسيا وإفريقيا”، وهي توصيفات تعكس الواقع الجغرافي والتاريخي للمنطقة دون أن تحمل إرثاً استعمارياً. هذه البدائل لا تقتصر على تصحيح لغوي، بل تشكّل خطوة معرفية نحو استعادة الحق في تسمية الذات وتحديد الهوية بعيداً عن مرجعيات الخارج. إن مسؤولية النخب الأكاديمية والفكرية والإعلامية اليوم هي المساهمة في تحرير اللغة من إرثها الكولونيالي، والانخراط في إنتاج خطاب معرفي مستقل. فالمصطلحات ليست مجرد أدوات توصيفية؛ إنها مفاتيح للفكر والسياسة، وأي إعادة صياغة لها تمثل خطوة في مشروع التحرر المعرفي والسياسي على حد سواء. إن استبدال “الشرق الأوسط” بمصطلحات جغرافية أكثر حيادية ودقة ليس مجرد تعديل لغوي، بل هو جزء من مشروع أكبر يهدف إلى تفكيك آثار الاستعمار في اللغة والفكر، وفتح المجال أمام بناء سرديات جديدة أكثر ارتباطاً بواقع المنطقة وتاريخها ومصالحها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *