الهوية الأربعينية للزائر: مقاربة فكرية في ملامح الإنسان الحسيني الجديد

الهوية الأربعينية للزائر: مقاربة فكرية في ملامح الإنسان الحسيني الجديد
تمثل زيارة الأربعين منظومة هوية روحية واجتماعية متجددة تعيد إنتاج الوعي الشيعي والكرامة الجماعية، وتربط الزائر بقيم التضحية والمقاومة، لتصبح تجربة تحول تتجاوز الطقوس إلى صناعة إنسان أربعيني حامل لرسالة كربلاء ومعانيها الخالدة...

لم تكن زيارة الأربعين يومًا مجرد شعيرة دينية تُؤدى بشكل موسمي، بل تحوّلت عبر الزمن إلى منظومة ثقافية وروحية واجتماعية تُعيد إنتاج الوعي الشيعي، وترفد الذاكرة الجماعية الإسلامية بوقائع مفعمة بالكرامة والتضحية والالتزام بالقيم العليا، إن هذا الحدث السنوي، الذي يعدّ من أكبر التجمعات البشرية في التاريخ، أنتج ما يمكن تسميته – في محاولة أولية لصياغة المفهوم – بـ”الهوية الأربعينية للزائر”، بوصفها حالة مركّبة تستبطن البعد العقدي، وتُعيد تموضع الإنسان المؤمن ضمن رؤيته لذاته وعلاقته بالآخرين، وبالزمن، وبالكون، وبالقيم العليا التي مثلتها نهضة الإمام الحسين عليه السلام ، تتجذر أهمية زيارة الأربعين في المخيال الشيعي خصوصًا، وفي السردية الإسلامية عمومًا، من كونها تمثّل الإطار الشعائري الأكثر حضورًا واستمرارية في التاريخ الإسلامي، حيث تتكرر في الوعي الجمعي أفعال الولاء، والمشقة، والعزاء، وتكثيف الشعور بالمظلومية والعدالة في آنٍ واحد ، هذا المخيال لم يبقَ محصورًا في الاستحضار العاطفي لواقعة كربلاء، بل تطوّر – بفعل التداول المعتقدي بين الأجيال – إلى وعي متنامٍ يُضاف إليه باستمرار، ما يمنح الهوية الأربعينية طابعًا تراكميًا من جهة، وتجريبيًا متجدّدًا من جهة أخرى، يثبّت أركان هذه الهوية ويمنحها مرونة في التفاعل مع تحوّلات العصر ، واحدة من الركائز العميقة في الهوية الأربعينية للزائر هي الحضور الطاغي لعنصر الغيب، بوصفه القوة المهيمنة على المعنى والاتجاه .

المقاصد الكبرى للرسالة الإسلامية

إن استحضار الزائر لمفاهيم مثل الشهادة، والنيّة، والجزاء، والغيبة، والحضور المهدوي، يمثل اندماجًا بين الوجدان الفردي والمقاصد الكبرى للرسالة الإسلامية ، من هنا، فإن زيارة الأربعين تؤكد على وجود امتداد لا شائبة فيه بين النهضة الحسينية ومقاصد الوحي الإلهي، بما يجعلها منصة حيوية للرد على أي تشكيك في شرعية تلك النهضة، سواء أتى من قراءة تاريخية جافة أو من سرديات مادية معاصرة تُقصي الغيب من تحليل الظواهر ، إلى جانب ذلك، تصوغ زيارة الأربعين ملامح الزائر بوصفه إنسانًا مدججًا بالحقوق، لا بالادّعاء وإنما بالتجربة ،فالسير إلى كربلاء – بكل ما يحمله من تعب جسدي، وخدمة متبادلة، وتحمّل للظروف – يربّي النفس على استحقاق الكرامة لا التنازل عنها ، كما أنه يُرسّخ في وعي الزائر مسؤوليته تجاه الحق، ويربطه بمنظومة “المقاومة” كمفهوم أخلاقي واجتماعي وليس مجرد فعل سياسي ،

الملامح الجوهرية للزيارة الأربعينية

ومن الملامح الجوهرية التي تُكوّن الهوية الأربعينية: المنهجية الفريدة التي تخلقها الزيارة في التكافل الاجتماعي، حيث تتحوّل الطرق إلى كربلاء إلى شبكة من العمل الطوعي، والبذل، والضيافة، وتقديم الخدمات بدون مقابل ، إن هذه الظاهرة التي تتكرر كل عام تمثل “اقتصادًا أخلاقيًا” قوامه الحب والولاء والقيم، وتؤسس لقراءة مغايرة لمفاهيم الإنتاج والاستهلاك في ظل الرأسمالية الجشعة ، ولا يُمكن الحديث عن الهوية الأربعينية بمعزل عن التحديات العالمية التي تفرضها العولمة الإعلامية والفلسفات المادية ، فهذه الفلسفات تسعى، من خلال أدوات تقنية ناعمة، إلى تفريغ الإنسان من روحه، وطمس فطرته، واستبدال قيمه الأصيلة بثقافة النفعية والشذوذ والتشظي الهوياتي ، وهنا تتحوّل زيارة الأربعين إلى خط الصد الأول؛ لأنها تُعيد ربط الإنسان بالسماء، وتُشعره بقيمة الانتماء، وتحميه من التغريب القيمي، لا عن طريق الإملاء، بل من خلال تجربة شعورية وجودية يتشاركها مع ملايين المؤمنين ، إن الهوية الأربعينية للزائر ليست مجرد مصطلح مستحدث، بل توصيف دقيق لتحوّل جذري يطرأ على الإنسان في سياق أربعيني متكرر، يخرجه من الانكماش الفردي إلى الاحتشاد الجماعي، ومن التديّن المنعزل إلى التدين المجتمعي المقاوم ، إنها هوية مقاومة، لكنها متسامية؛ هادئة لكنها لا تقبل الظلم؛ فردية في التكوين، وجماعية في التعبير ، وفي ظل ما نعيشه من محاولات لمحو الخصوصيات الثقافية، وتذويب الوعي الديني، تبدو الهوية الأربعينية للزائر أشبه بـ”جدار معرفي شعبي” يتجدد كل عام، لا ليحفظ الطقوس فقط، بل ليعيد صياغة الإنسان على مقاسات كربلاء: حيث الحرية أعلى من الحياة، والكرامة أثمن من السلامة، والولاء أسبق من المصلحة ، وهكذا، لا تنتهي زيارة الأربعين بانتهاء المسير، بل تبدأ عندها رحلة التحول إلى ما يمكن تسميته: الإنسان الأربعيني، الذي يحمل في داخله شرارة كربلاء، ويمضي بها إلى واقع يتغيّر… لكنه لا يساوم ، وإذا أردنا استكمال رسم ملامح هذه الهوية الفريدة، فإن علينا التوقف عند الخصوصية الروحية والوجدانية التي تمنحها زيارة الأربعين للزائر، وهي خصوصية تختلف جوهريًا عن تلك التي يُمنحها الحاج الزائر لبيت الله الحرام، أو الزائر لقبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ، فالحج، على ما له من قدسية ومقام شرعي رفيع، ينطوي في بنيته على شعائر محددة، ومحطات روحانية مقننة، وموسمية محصورة بزمن معلوم، تجري جميعها في سياق فرديّ الطابع رغم الجماعة الظاهرة ، أما زيارة النبي الأكرم ﷺ فهي مشحونة بمشاعر الحب والارتباط بنبي الرحمة، لكنها غالبًا ما تكون محاطة بجدران السلطة الدينية والسياسية، وتخضع لضوابط رقابية تحدّ من حريّة التعبير الوجداني للمؤمن ، في المقابل، زيارة الأربعين تتيح للزائر حرية وجدانية غير مسبوقة؛ إنه لا يأتي فقط لتجديد البيعة، بل لعيش تجربة كربلاء بكامل معانيها: من الغربة، والعطش، والمصاب، والمظلومية، إلى الثبات، والمقاومة، والاستشهاد الرمزي في كل خطوة ، إنها خصوصية تفاعلية؛ الزائر لا يشاهد من بعيد، بل ينخرط في الفعل، يتألم، يخدم، يبكي، يسير، يُطعم ويُطعم، ينام على الأرض ويستيقظ على الحلم… ثم يعود، محمّلًا بطاقة تتجاوز حدود الجغرافيا والطقس والزمن ، لهذا، فالهوية الأربعينية للزائر ليست تجربة عبور، بل تجربة تحوّل، تتجاوز الانفعال الروحي العابر لتنتج إنسانًا جديدًا، نذيرًا بالكرامة، وشاهدًا على قدرة الدين، حين يُعاش بصدق، على إنتاج أمةٍ لا تموت، ورسالةٍ لا تُهزم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *