لعبة الوقت للصين: كيف تُحوِّل بكين الحربَ التجارية إلى فرصة؟

لعبة الوقت للصين: كيف تُحوِّل بكين الحربَ التجارية إلى فرصة؟
أظهرت تجربة ترامب الثانية أنّ الصين قادرة على امتصاص الرسوم الأمريكية واستغلال عناصر نادرة وإعادة التصدير، لكن التفوق الأمريكي في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات يبقي ميزان القوى لصالح واشنطن، فيما تسعى بكين لشراء الوقت عبر تكتيكات مرحلية....

مقدمة
إنّ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في كانون الثاني/يناير 2025 أعادت إلى أذهان القادة الصينيين قبل كل شيء ذكريات الأيام العصيبة للحرب التجارية خلال ولايته الأولى. فقد أظهرت تجربة الرسوم العقابية والضغوط السياسية ما بين 2016 و2020 ليس فقط الثغرات البنيوية في الاقتصاد الصيني، بل أيضاً هشاشة بكين إزاء الأدوات الاقتصادية الأمريكية. ومع ذلك، فإن ما حدث خلال الأشهر الستة الأولى من الولاية الثانية لترامب رسم صورة مختلفة: إذ تمكنت الصين من إدارة الضغوط الجمركية، وكشف الأضرار التي لحقت بالجانب الأمريكي، بل ورأت نفسها فاعلاً أكثر نشاطاً في المعادلة. ويبقى السؤال المحوري: هل إنّ هذه الثقة الجديدة بالنفس مجرّد تكتيك مؤقت، أم هي إشارة إلى تحوّل مستدام في ميزان القوى الاقتصادية بين البلدين؟

الحرب الجمركية وهشاشة الاقتصاد الأمريكي

أعاد ترامب في الأشهر الأولى من ولايته اعتماد سياسة الرسوم الجمركية. ففي شباط/فبراير وآذار/مارس 2025 فُرضت رسوم بنسبة عشرة بالمئة على سلع مختارة صينية، وفي نيسان/أبريل جاءت موجة جديدة تحت مسمى “يوم الحرية” لترفع متوسط التعرفة الجمركية على الواردات الصينية إلى نحو 150%. وقد بدا ذلك تهديداً خطيراً لبكين. فصادرات الصين إلى الولايات المتحدة التي بلغت نحو 536 مليار دولار في 2023 تراجعت بما يقارب 18% خلال الربع الأول من 2025.

لكن رد فعل السوق الأمريكية كشف أنّ الكلفة الفعلية تقع على كاهل واشنطن ذاتها؛ إذ ارتفع مؤشر أسعار المستهلك بنسبة 0.6% في الفترة نفسها، وتضررت أرباح قطاعات صناعية كصناعة السيارات والإلكترونيات. كما اتسع العجز التجاري الأمريكي مع دول أخرى، حيث شهدت الواردات من فيتنام والمكسيك قفزة غير مسبوقة. هذا الضغط التضخمي والاعتراض من جماعات الضغط التجارية دفعا ترامب في أيار/مايو إلى القبول باتفاق جنيف والتراجع جزئياً عن الرسوم. ومن منظور بكين، شكّل ذلك دليلاً على هشاشة الاقتصاد الأمريكي أمام صدمات التعرفة، وعلى أنّ هذه السياسة تنطوي على تداعيات باهظة على واشنطن نفسها.

إعادة التصدير والمسارات البديلة للتجارة

من أسباب صمود الصين اعتمادها على شبكات إعادة التصدير. فقد وجدت البضائع الصينية طريقها إلى السوق الأمريكية عبر بلدان مثل المكسيك وماليزيا وفيتنام. وحدها صادرات المكسيك في قطاع الإلكترونيات إلى الولايات المتحدة ارتفعت في 2024 بما يزيد على 25%، وهي زيادة لا تنسجم مع الطاقة الإنتاجية الفعلية للبلاد. وهكذا، حتى في ذروة الضغط الجمركي، نجحت السلع الصينية في النفاذ إلى السوق الاستهلاكية الأمريكية، مما قلّص الأثر العملي للعقوبات.

العناصر النادرة؛ أداة جيوـاقتصادية صينية

تحتكر الصين ما بين 60 و70% من الإنتاج العالمي للعناصر الأرضية النادرة، وأكثر من 80% من عمليات معالجتها. وفي نيسان/أبريل 2025 علّقت بكين تصدير جزء من هذه المواد، فواجهت سلاسل الإنتاج الأمريكية تهديداً جدياً بالاختلال. وقد أكدت تقارير وزارة الدفاع الأمريكية أنّ استمرار هذا الإجراء قد يؤخر إنتاج مقاتلات “إف-35” والسيارات الكهربائية. كانت هذه المرة الأولى التي تخلق فيها الصين “عنق زجاجة” حقيقياً في العلاقة الاقتصادية مع الولايات المتحدة؛ تجربة منحت قادة بكين ثقة متجددة بالنفس.

تحوّل نبرة الإدارة الثانية لترامب

وفي الوقت نفسه، لاحظت الصين أن إدارة ترامب الثانية أقل انشغالاً بالقضايا الأيديولوجية والسياسية مقارنة بالفترة الأولى. فتركيز ترامب انصبّ أساساً على الميزان التجاري، بينما جرى تهميش ملفات حساسة مثل حقوق الإنسان أو شرعية الحزب الشيوعي. وحتى في ملف تايوان، لم يكتفِ ترامب بفرض رسوم بنسبة 20% على السلع التايوانية، بل رفض أيضاً استقبال رئيسة تايوان في نيويورك. ومن منظور بكين، دلّ هذا السلوك على أنّ واشنطن غير راغبة، في هذه المرحلة، في تصعيد التوترات السياسية، وهو ما يمثل فرصة لاستغلالها في صفقات اقتصادية.

المنافسة الحادة في الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات

ومع ذلك، فإن الساحة الأساسية للتنافس بين الصين وأمريكا تبقى ميدان التكنولوجيا المتقدمة. ففي 2024 بلغ حجم الاستثمارات الخاصة الأمريكية في الذكاء الاصطناعي أكثر من 109 مليارات دولار، مقابل 9.3 مليارات فقط للصين؛ أي بفارق يتجاوز اثني عشر ضعفاً. وعلى المستوى العالمي، بلغ إجمالي الاستثمارات في هذا القطاع 252.3 مليار دولار، كانت الحصة الغالبة منها للشركات الأمريكية. كما أن الولايات المتحدة ما تزال المصدر الرئيسي للنماذج العلمية المرجعية وللمقالات الأكثر استشهاداً.

أما في البنية التحتية الحاسوبية، فقد وصلت الطاقة الصينية حتى منتصف 2024 إلى 246 إكزا فلوبس، مع هدف بلوغ 300 في 2025. غير أن جزءاً كبيراً من هذه القدرة غير مهيأ بالكامل للذكاء الاصطناعي، فيما تظل الولايات المتحدة صاحبة الحصة الأكبر من الحواسيب العملاقة المخصصة لهذا المجال.

وفي صناعة أشباه الموصلات، يظهر المشهد على نحو مشابه. ففي الربع الأخير من 2024 سيطرت الشركة التايوانية TSMC على 67% من السوق، تلتها “سامسونغ” بنسبة 8.1%، بينما لم تتجاوز حصة الشركة الصينية SMIC نسبة 5.5%. ورغم تمكن SMIC من إنتاج رقاقة بحجم 7 نانومتر لهواتف “هواوي” باستخدام تقنية قديمة، فإن هذا الإنجاز كان مكلفاً وضعيف المردود. كما أن اعتماد الصين على واردات الرقائق ما يزال مصدر قلق جدي؛ إذ استوردت في 2024 ما يزيد على 549 مليار وحدة بقيمة 385 مليار دولار، بزيادة تفوق 10% عن العام السابق.

وقد استثمرت الولايات المتحدة هذا الضعف بذكاء؛ ففي 2025 سمحت إدارة ترامب بتصدير نسخ مخفّفة من رقائق الذكاء الاصطناعي مثل NVIDIA H20 إلى الصين، ولكن بشرط جديد: اقتطاع 15% من عائدات المبيعات. وهكذا جمعت السياسة بين استمرار الضغط التكنولوجي على بكين وضمان المكاسب للشركات الأمريكية.

تكتيك شراء الوقت لدى بكين

يدرك قادة الصين أن الفجوة التكنولوجية لن تُسد بسهولة. لذا فإن المفاوضات التجارية مع ترامب تُصمَّم لا لحل النزاع، بل لشراء الوقت اللازم. وقتٌ لتعزيز الاستثمارات في البحث والتطوير، وتوسيع السوق الداخلية، وتقليص الاعتماد التكنولوجي على الخارج. وفي هذا الإطار، قد يشكل الاجتماع المرتقب في خريف هذا العام ببكين فرصة لانتزاع مكاسب قصيرة الأجل، دون معالجة القضايا البنيوية.

خاتمة
لقد أظهرت الأشهر الستة الأولى من الولاية الثانية لترامب أن العلاقات الصينية–الأمريكية دخلت مرحلة جديدة. فلم تعد بكين ضحية سلبية لرسوم واشنطن، بل أصبحت تستخدم أدوات مثل العناصر النادرة وشبكات إعادة التصدير لتخفيف الضغوط وكشف مواطن الضعف في الاقتصاد الأمريكي. كما أن تغير نبرة ترامب وتركيزه على التجارة منح الصين هامش تنفس إضافياً. ومع ذلك، فإن هذه الثقة بالنفس تبدو أكثر ثمرة لإدارة تكتيكية للأزمة لا نتيجة لتحول حقيقي في ميزان القوى. ففي الميادين الجوهرية كالذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات ما تزال اليد العليا لأمريكا؛ من ضخامة الاستثمارات والبنى التحتية الحاسوبية، إلى التحكم بالمعدات المتقدمة وسلاسل التوريد العالمية للتقنيات الفائقة.

لذلك، فإن الاستراتيجية الحالية لبكين ليست حلاً بعيد المدى بقدر ما هي “لعبة وقت” تستعد من خلالها للمنافسة المقبلة. وبعبارة أخرى، فإن الصين تخشى ترامب الثاني وتستفيد منه في آن واحد: تخشاه لأنها تدرك حتمية التنافس الجيوسياسي، وتستفيد منه لأن الحرب التجارية لم تعد أداة حاسمة بيد واشنطن، بل قد تتحول إلى فرصة لقياس وتعزيز قدرات الصين. غير أنّ الفصل الحاسم في هذا الصراع لن يُكتب على طاولة المفاوضات التجارية، بل في ميدان المنافسة التكنولوجية، حيث لا تزال الغلبة للولايات المتحدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *