المقدمة
لقد تأسّس الأمن القومي للكيان الصهيوني منذ اللحظة الأولى لقيامه في أيار/مايو 1948 على قاعدة استراتيجية راسخة، مفادها أنّ هذا الكيان، إذا أراد البقاء والاستمرار وتثبيت وجوده في بيئة إقليمية معادية، فإنّه مطالب دوماً بالاحتفاظ بتفوّق نوعي عسكري وتكنولوجي على جميع جيرانه من العرب والمسلمين. فالمساحة الجغرافية الضيّقة، وعدد السكان المحدود، والوقوع في محيط إقليمي يضم دولاً يفوق بعضها “إسرائيل” أضعافاً من حيث المساحة وعدد السكان والموارد، جعلت هذا الكيان في حالة هشاشة بنيوية وضعف استراتيجي دائم.
وأمام هذه المعضلة البنيوية، لم يكن أمام صانع القرار الإسرائيلي إلا البحث عن حلّ جذري يتمثّل في السعي إلى امتلاك أحدث ما يمكن من التكنولوجيا العسكرية والتفوّق في مجالات السلاح النوعي، مع العمل في الوقت ذاته على منع أي دولة عربية أو إسلامية من الوصول إلى مستوى يتيح لها التوازن مع “إسرائيل” أو تهديدها. ولهذا اتّخذت تل أبيب منذ البداية خطّاً استراتيجياً يقوم على مراكمة القدرات النوعية المتقدمة من جهة، وعلى إجهاض أي محاولة إقليمية لامتلاك قدرات مماثلة من جهة أخرى.
وقد تطوّر هذا المبدأ لاحقاً ليُعرف في الأدبيات الأمنية والعسكرية باسم عقيدة التفوّق النوعي العسكري أو ما يُصطلح عليه بالإنكليزية (Qualitative Military Edge – QME)، وهو المفهوم الذي تحوّل مع مرور الزمن إلى العمود الفقري للأمن القومي الإسرائيلي وللاستراتيجية الدفاعية والهجومية في آن واحد. ولم تقتصر آليات تطبيقه على الاستيراد أو الإنتاج الكثيف للسلاح المتطور، بل شملت كذلك تبنّي سياسة العمليات الاستباقية التي تجسّدت في التخريب الصناعي، وتهديد العلماء، وتنفيذ الاغتيالات النوعية، وأخيراً شنّ الغارات الجوية المباشرة على المنشآت النووية والصاروخية في عدد من الدول العربية والإسلامية.
إنّ استعراض مسار التاريخ المعاصر في منطقة الشرق الأوسط يُظهر بجلاء أنّ كل تلك العمليات ـ ابتداءً من التهديدات الفردية وعمليات التخريب الخفي، وصولاً إلى القصف العلني والاغتيالات المباشرة ـ لم تكن أحداثاً معزولة، بل حلقات متكاملة ضمن إطار عقيدة التفوّق النوعي، تهدف جميعها إلى منع ظهور أي قوة إقليمية قادرة على تهديد التفوّق الإسرائيلي أو موازنة قدراته.
عقيدة التفوّق النوعي الإسرائيلي (QME)
تعود الجذور الأولى لهذه العقيدة إلى ستينيات القرن العشرين، حين بدأ كبار المسؤولين الأمنيين والعسكريين في تل أبيب بصياغة هذا المبدأ كإطار نظري وعملي للأمن القومي. ثمّ ما لبثت أن تبنّتها الولايات المتحدة الأمريكية، وأدرجتها في سياستها الرسمية تجاه الشرق الأوسط، بحيث نصّت التشريعات الصادرة عن الكونغرس الأمريكي في مجال بيع السلاح للمنطقة على وجوب مراعاة ضمان بقاء “إسرائيل” متمتعة دوماً بتفوّق نوعي على أي دولة عربية.
وبموجب هذا الالتزام، إذا قامت دولة عربية بشراء مقاتلات حديثة من طراز متطور، فإنّ واشنطن تُلزَم إما بتزويد تل أبيب بنسخة أكثر تطوراً من السلاح نفسه، أو بمنحها دعماً خاصاً وتكنولوجيا إضافية تجعل ميزان القوى يبقى في مصلحة “إسرائيل”. وهكذا تحوّل الحفاظ على التفوّق النوعي الإسرائيلي إلى عنصر ثابت في صميم السياسة الأمريكية الشرق أوسطية.
وترتكز هذه العقيدة على ثلاث دعائم أساسية واضحة:
التفوّق التسليحي: أي ضمان حصول “إسرائيل” بشكل دائم على أحدث أنواع الأسلحة وأكثرها تطوراً، مثل المقاتلات من الجيل الخامس (F-35) أو منظومات الدفاع الصاروخي متعددة الطبقات التي تتيح لها مواجهة تهديدات مختلفة في البر والجو والبحر.
التفوّق التكنولوجي: أي الاستثمار المتواصل والكثيف في الصناعات العسكرية والتكنولوجية بما يجعل “إسرائيل” ليست مجرّد مستهلك للتكنولوجيا الغربية، بل منتجاً ومصدّراً لها، بحيث تستطيع تحويل قدراتها إلى ميزة استراتيجية دائمة.
العمليات الاستباقية: أي المبادرة إلى القضاء على التهديدات المحتملة قبل أن تصل إلى مستوى الردع الفعلي، وذلك عبر التخريب أو الاغتيال أو القصف المباشر للمنشآت.
وبناءً على هذه الركائز الثلاث، واظبت “إسرائيل” على تنفيذ عمليات عسكرية واستخباراتية واسعة، غايتها الأساسية المحافظة على تفوّقها النوعي في منطقة غرب آسيا، لا سيما عبر استهداف البرامج النووية والصاروخية التي اعتُبرت الأخطر على مكانتها الاستراتيجية.
العمليات
عملية “داموس”: إطفاء البرنامج الصاروخي المصري
في مطلع ستينيات القرن الماضي، أطلق الرئيس جمال عبد الناصر، بمساعدة خبراء ألمان، مشروعاً طموحاً لإنتاج صواريخ بمدى مئات الكيلومترات قادرة على تهديد تل أبيب وحيفا. وقد اعتُبر المشروع خطراً مباشراً على أمن الكيان الصهيوني. فخطط “الموساد” عملية نوعية حملت لاحقاً اسم “داموس”، جرى خلالها تهديد العلماء الألمان وعائلاتهم، وتعرّض بعضهم لمحاولات اغتيال مباشرة، فيما مورست ضغوط سياسية ودبلوماسية على حكومة ألمانيا الغربية. وأمام هذا الضغط المركّب، اضطر العديد من الخبراء الألمان إلى مغادرة مصر، الأمر الذي أدّى إلى تباطؤ المشروع وإصابته بالشلل الجزئي.
أما تسمية العملية بـ”داموس”، فقد جاءت محمّلة بالرمزية، إذ تعود الكلمة إلى جذور يونانية ولاتينية تحمل معاني “الخراب” و”الصمت” و”الإخماد”. وبذلك أرادت “إسرائيل” أن ترسل رسالة صريحة مفادها أنّ المشروع الصاروخي المصري سيُطفأ كما تُطفأ شمعة ضعيفة في مهب الرياح.
عملية “داموكليس”: السيف المعلّق فوق العراق
في سبعينيات القرن العشرين، ومع تصاعد طموحات الرئيس العراقي صدام حسين النووية والصاروخية، بدأ القلق الإسرائيلي يتزايد. فقد عقدت بغداد صفقات مع فرنسا وإيطاليا لشراء مفاعل نووي وتجهيزاته، ما جعل “إسرائيل” ترى أنّ الخطر بات وشيكاً. فجاء الردّ عبر عملية “داموكليس”، التي انطوت على سلسلة إجراءات سرّية، شملت تهديد العلماء الأجانب المتعاونين مع العراق، واغتيال بعضهم، وإجبار آخرين على الانسحاب من المشروع، إضافة إلى تنفيذ عمليات تخريب استهدفت المعدات المشتراة في أوروبا.
وقد جاء اختيار اسم العملية مستوحى من أسطورة “سيف داموكليس”، حيث يُصوَّر السيف معلقاً بشعرة رقيقة فوق رأس الملك ليذكّره دوماً بخطر الموت المحدق. أرادت “إسرائيل” بهذه التسمية أن تبعث رسالة واضحة إلى العلماء: “إنّ سيف الموت معلّق فوق رؤوسكم، وقد يسقط في أية لحظة.”
عملية “أوبرا”: عرض خاطف في سماء بغداد
في 7 حزيران/يونيو 1981، بلغت السياسة الاستباقية الإسرائيلية ذروتها مع تنفيذ غارة جوية واسعة على مفاعل “أوسيـراك” العراقي. فقد شاركت في العملية ثماني مقاتلات من طراز F-16 ترافقها ست طائرات F-15، قطعت أكثر من 1100 كيلومتر في أجواء معادية، لتدخل المجال الجوي العراقي وتدمر المفاعل خلال دقائق معدودة. أسفرت الغارة عن تدمير كامل للموقع ومقتل عشرة أشخاص، بينهم عالم فرنسي كان يعمل في المشروع.
وقد دان مجلس الأمن الدولي العملية عبر قراره 487، معتبراً أنّ ما قامت به “إسرائيل” انتهاك للقانون الدولي، لكنّه لم يفرض أية عقوبات عملية. أما اختيار اسم “أوبرا”، فقد حمل دلالة رمزية، حيث الأوبرا في الثقافة الغربية عرض قصير ومكثّف، ينطوي على ذروة درامية، ليعكس المعنى الذي أرادته “إسرائيل”: دخول سريع، عرض قصير، ذروة ثم انسحاب، فيما العدو يُمحى خلال لحظات.
عملية “البستان”: اجتثاث الغرسة في دير الزور
في عام 2007، توجّهت الأنظار الإسرائيلية إلى سوريا، بعد تقارير استخباراتية أفادت بأنّ دمشق، بمساعدة كوريا الشمالية، تبني مفاعلاً نووياً في منطقة دير الزور. فقررت تل أبيب تنفيذ عملية استباقية لتدميره قبل اكتماله. وقد قامت مقاتلات F-15 وF-16 باستخدام تقنيات الحرب الإلكترونية لتعمية الرادارات السورية، ثم قصفت الموقع ودمّرته بشكل كامل.
جرت العملية في ظل صمت إعلامي نسبي، إذ لم تصدر دمشق رداً عسكرياً كبيراً خشية اندلاع حرب شاملة مع “إسرائيل”. وقد سُمّيت العملية بـ”البستان”، في إشارة إلى أنّ المفاعل النووي كان أشبه بغرسة صغيرة في بستان، جرى اقتلاعها قبل أن تؤتي ثمارها. وهكذا أرادت تل أبيب أن ترسل رسالة بأنّ أي “شتلة نووية” ستُقتلع من جذورها قبل أن تنمو وتثمر.
عملية “نارنيا”: التوغّل في العالم السري الإيراني
منذ مطلع الألفية الثالثة، أصبح البرنامج النووي الإيراني الهاجس الأول لصانع القرار الإسرائيلي. فالهجوم السيبراني بفيروس “ستاكس نت” والاغتيالات التي طالت علماء إيرانيين بين عامي 2010 و2012 كانت مجرد مقدّمات لهذه السياسة. وفي عام 2025 دشّنت “إسرائيل” مرحلة جديدة تحت اسم “نارنيا”، حيث استُهدف عدد من العلماء البارزين بالاغتيال، وتعرضت منشآت نطنز وفردو لقصف جوي عنيف.
أما اختيار اسم “نارنيا”، فقد كان مستلهماً من عالم الخيال في روايات “سي. إس. لويس”، حيث يُصوَّر عالماً سرياً موازياً لا يُدخل إليه إلا عبر بوابة خفية. وبذلك أرادت تل أبيب أن توصل رسالة أنّ “الموساد” استطاع أن ينفذ إلى “العالم الموازي” للبرنامج النووي الإيراني، وأنه لم يعد هناك سرّ أو عالم خفي يمكن أن يبقى بعيداً عن متناول أجهزتها.
عملية “العرس الدموي”: كسر رمزية السلطة في إيران
بالتوازي مع “نارنيا”، نفّذت “إسرائيل” عملية أخرى استهدفت قيادات عليا في الحرس الثوري الإيراني. فقد جرى استدراج عدد من القادة إلى اجتماع خاص للبحث في الرد على عملية “نارنيا”، لكنّ المكان كان مراقباً ومفخخاً مسبقاً من قِبل عملاء “الموساد”. وقد استُهدف الاجتماع بصواريخ ومسيّرات، ما أسفر عن مقتل وإصابة عدد من القيادات البارزة.
وسُمّيت العملية إعلامياً بـ”العرس الدموي”، في إشارة إلى المشهد الشهير في مسلسل “لعبة العروش” المعروف باسم “العرس الأحمر”. والرمزية هنا أنّ القادة الكبار كانوا في قلب الرصد الاستخباراتي الإسرائيلي، بحيث جرى استدراجهم إلى مكان واحد ليُبادوا بشكل جماعي، في صورة أقرب ما تكون إلى “عرس دموي”.
الانعكاسات الاستراتيجية
الآثار قصيرة المدى: تثبيت التفوّق وإحداث صدمة نفسية
لقد نجحت العمليات الإسرائيلية في الأمد القصير في تعطيل أو تدمير البرامج النووية والصاروخية لمصر والعراق وسوريا وإيران، ومنعت هذه الدول من بلوغ مستوى الردع الكامل. كما بعثت برسالة نفسية قوية مفادها أنّ كل من يشارك في برامج مناوئة لـ”إسرائيل” لن يكون في مأمن، وأنّ يدها قادرة على بلوغ أي مكان.
الآثار متوسطة المدى: السرية وسباق التسلّح
لكن على المدى المتوسط، لم تؤدِّ هذه العمليات إلى تعزيز الاستقرار الاستراتيجي، بل أسهمت في تكريس السرية والتشظي في برامج الدول المستهدفة، وأطلقت سباقاً محموماً للتسلح. فقد دفعت دول الخليج العربي، وعلى رأسها السعودية والإمارات، إلى الاستنتاج أنّ الخيار الأنجع لضمان أمنها يتمثّل في صفقات تسليحية ضخمة مع الولايات المتحدة وأوروبا. ووفق بيانات معهد SIPRI، أصبحت السعودية بين عامي 2010 و2020 ثاني أكبر مستورد للسلاح في العالم، فيما واصلت الإمارات زيادة ميزانيتها الدفاعية بشكل مطرد. وهكذا، بدلاً من الاستقرار، دخلت المنطقة في دوامة مكلفة من سباق التسلح وتعميق انعدام الثقة المتبادل.
الآثار طويلة المدى: عدم الاستقرار وأزمة نظام عدم الانتشار
أمّا على المدى البعيد، فقد تحوّل الشرق الأوسط إلى واحدة من أكثر مناطق العالم توتراً. فمع بقاء “إسرائيل” القوة النووية الوحيدة في المنطقة، لجأ خصومها إلى بناء قدرات ردع غير متماثلة، عبر تطوير ترسانات صاروخية ومسيّرات وإنشاء شبكات من القوى الحليفة غير الدولتية. كما أنّ السياسة الإسرائيلية قوّضت شرعية نظام عدم الانتشار النووي، إذ بدت وكأنّ هناك معايير مزدوجة: “إسرائيل” نفسها خارج معاهدة NPT، لكنها في الوقت ذاته تمنع الآخرين من امتلاك قدرات مماثلة.
الخاتمة
إنّ التجربة التاريخية على مدى العقود السبعة الماضية تبيّن أنّ عقيدة التفوّق النوعي شكّلت الأساس الذي بُني عليه الأمن القومي الإسرائيلي. فمن “داموس” و”داموكليس” في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، إلى “أوبرا” و”البستان” في العقود اللاحقة، وصولاً إلى “نارنيا” و”العرس الدموي” عام 2025، كلّها جاءت في إطار منطق استباقي هدفه القضاء على القدرات الردعية المحتملة في مهدها.
ورغم ما حققته هذه السياسة من مكاسب مرحلية عبر منع مصر والعراق وسوريا وإيران من التحول إلى قوى نووية أو صاروخية متكاملة، فإنّ نتائجها البعيدة المدى جاءت أكثر تعقيداً، بل في كثير من الأحيان معاكسة للمراد. فقد أدّت إقليمياً إلى تأجيج سباق التسلح وتعميق الردع غير المتماثل، وأدّت دولياً إلى تقويض شرعية منظومة عدم الانتشار وإبراز المعايير المزدوجة للقوى الكبرى.
وبذلك يمكن القول إنّ العمليات الاستباقية الإسرائيلية، في إطار عقيدة التفوّق النوعي، وإن منحت تل أبيب تفوّقاً أمنياً في الأمد القصير، فإنّها على المدى الطويل كرّست بيئة من عدم الاستقرار البنيوي في الشرق الأوسط. وبقيت “إسرائيل” القوة النووية الوحيدة في المنطقة، لكن هذا التفوّق النوعي لم يتحوّل إلى ضمانة لسلام دائم، بل صار مصدراً لتكاليف باهظة وتوترات متصاعدة على مستوى الإقليم والنظام الدولي برمّته.


