المقدّمة
يُعَدّ مبدأ احترام سيادة الدول ومنع اللجوء إلى القوة من أهمّ أعمدة النظام الدولي المعاصر. ينصّ ميثاق الأمم المتحدة في المادة 2(4) على أنّه لا يحق لأي دولة استخدام القوة ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لدولة أخرى. ويُعَدّ هذا المبدأ قاعدة آمرة في القانون الدولي، ليس فقط في المعاهدات الدولية بل أيضاً في القانون الدولي العرفي. ومع ذلك، فإنّ إسرائيل قد ارتكبت على مدى العقود الماضية انتهاكات صارخة ومتكررة لهذه المبادئ؛ بدءاً من الحروب التوسعية عامي 1948 و1967، مروراً بالسياسات المستمرة للاستيطان، والاعتداءات الجوية على المدنيين، وصولاً إلى عمليات الاغتيال العابرة للحدود. وآخر مثال على هذا النهج كان الغارة الجوية على الدوحة، عاصمة قطر، في 9 أيلول/سبتمبر 2025، والتي استهدفت اغتيال قادة رفيعي المستوى في حركة حماس. هذا الهجوم لم يؤدِّ فقط إلى مقتل عدد من الأشخاص، بل استهدف أيضاً بشكل مباشر سيادة قطر الوطنية، وطرح سؤالاً خطيراً أمام المجتمع الدولي: كيف يمكن الصمت أمام هذه الانتهاكات المتكررة مع الإبقاء على الأمل في بقاء النظام القانوني الدولي؟
الهجوم على قطر: مشهد جديد من اعتداءات الكيان
في 9 أيلول/سبتمبر 2025، شهدت منطقة لقطيفية في الدوحة غارة جوية بأوامر إسرائيلية. كان الهدف الرئيسي من هذه العملية خليل الحيّة وعدد من القادة الكبار في حركة حماس الذين اجتمعوا في قطر لمناقشة خطة الهدنة الأميركية. ورغم فشل العملية في تحقيق هدفها الأساسي وبقاء القادة المستهدفين على قيد الحياة، إلا أنّ الهجوم أسفر عن مقتل ما لا يقل عن ستة أشخاص: نجل خليل الحيّة، مدير مكتبه، ثلاثة من الحراس، وضابط أمن قطري. كما أُصيب عدد آخر من عناصر الأمن القطري بجروح.
تميّز هذا الهجوم بعدة خصائص: أولاً، نُفِّذ على أرض دولة مستقلة من دون موافقتها. ثانياً، وقع في وقت كانت قطر تلعب فيه دور الوسيط في مفاوضات السلام. ثالثاً، أدّى إلى مقتل مواطنين وعناصر أمن رسميين قطريين لا علاقة لهم بالنزاع. وبالتالي يمكن اعتباره في آنٍ واحد «عدواناً على دولة مستقلة» و«اغتيالاً دولتيّاً».
من الناحية القانونية، يُشكّل هذا العمل انتهاكاً مباشراً للمادة 2(4) من ميثاق الأمم المتحدة، ولمبدأ احترام سيادة الدول، ولحظر الاغتيال السياسي. علاوة على ذلك، ونظراً لمقتل مدنيين وعناصر غير مسلّحين، يتعارض هذا الهجوم مع المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني. وقد كانت ردود فعل قطر والدول العربية على هذه الحادثة شديدة؛ إذ وصفت وزارة الخارجية القطرية هذا العمل بأنّه «انتهاك صارخ للسيادة الوطنية وتهديد للأمن الإقليمي»، وأدانته جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي في بيانات رسمية. كما أدانه مجلس الأمن الدولي بالإجماع (15 صوتاً مؤيداً). هذه الردود تعكس إجماعاً إقليمياً ودولياً على عدم شرعية هذا العمل وضرورة محاسبة إسرائيل.
السجلّ التاريخي لانتهاكات إسرائيل للقانون الدولي
إنّ الهجوم على قطر ليس معزولاً بل يأتي ضمن نمط له جذور تاريخية. فمنذ تأسيسها عام 1948، لجأت إسرائيل مراراً إلى استخدام القوة لترسيخ وتوسيع سيطرتها:
- في حرب 1948، تم تهجير أكثر من 750 ألف فلسطيني فيما يُعرف اليوم بـ«النكبة».
- في حرب حزيران/يونيو 1967، احتلت إسرائيل الضفة الغربية، قطاع غزة، مرتفعات الجولان، وصحراء سيناء. وطالب قرار مجلس الأمن رقم 242 بالانسحاب من هذه الأراضي، غير أنّ جزءاً من هذا الاحتلال ما زال مستمراً.
- في عام 1981، أعلنت إسرائيل من جانب واحد ضمّ مرتفعات الجولان، وهو ما اعتبره مجلس الأمن في قراره 497 «باطلاً وعديم الأثر القانوني».
- سياسة الاستيطان ما زالت قائمة حتى اليوم. هناك أكثر من 700 ألف مستوطن إسرائيلي يقيمون في أكثر من 150 مستوطنة وعشرات البؤر الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. ويُعَدّ هذا خرقاً للمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة.
- خلال العقود الأخيرة، شنّت إسرائيل هجمات متكررة على الدول المجاورة؛ منها العمليات العسكرية في لبنان (1978، 1982، 2006) والغارات الجوية المتكررة على سوريا والعراق والسودان ولبنان ومؤخراً إيران.
- بين 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 ونهاية 2024، قُتل أكثر من 64,000 فلسطيني في غزة بحسب تقارير الأمم المتحدة، وكان أكثر من نصفهم من النساء والأطفال. كما قُتل 196 مسعفاً ومئات الأطباء والممرضين في الغارات الإسرائيلية. وتُظهر هذه الأرقام خرقاً ممنهجاً لمبدأ التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية.
- في الفترة ذاتها، سُجِّل أكثر من 1860 اعتداءً من قبل المستوطنين على الفلسطينيين في الضفة الغربية، بمعدل أربع هجمات يومياً. إضافة إلى ذلك، تم تدمير أكثر من 55,000 منزل ومنشأة فلسطينية منذ عام 1967.
تُظهر هذه المعطيات أنّ إسرائيل استخدمت بشكل منهجي القوة العسكرية لتحقيق أهداف سياسية، متجاهلةً التزاماتها الدولية. والهجوم على قطر حلقة جديدة في هذه السلسلة الطويلة من الانتهاكات.
فكرة «إسرائيل الكبرى» وتهديد النظام الدولي
لا يمكن فهم حادثة قطر من دون الإشارة إلى أيديولوجيا «إسرائيل الكبرى». هذه الفكرة، التي تتبنّاها بعض التيارات اليمينية المتطرفة في إسرائيل، تتحدى الحدود المعترف بها دولياً وتطرح ادعاءات بالسيادة على أجزاء من الأردن وسوريا ولبنان ومصر. ورغم أنّ جميع السياسيين الإسرائيليين لا يعلنون دعمهم لها صراحة، إلا أنّ تصريحات صدرت في السنوات الأخيرة من شخصيات رفيعة المستوى أثارت قلقاً جدّياً.
من الناحية القانونية، يُشكّل هذا المشروع التوسعي انتهاكاً صريحاً لمبدأ سلامة أراضي الدول ولمبدأ حظر استخدام القوة. ومن الناحية السياسية، يؤدّي إلى تصعيد التوترات وزعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط. ومن الناحية الإنسانية، يعني استمرار الاحتلال والتمييز وانتهاك حق الشعوب في تقرير مصيرها. إنّ عدوان إسرائيل على قطر، حتى لو تمّ تبريره بمحاولة اغتيال قادة حماس، يمكن أن يُعتبر اختباراً عملياً لتحقيق تدريجي لهذا المشروع. وبناءً على ذلك، فإنّ فكرة «إسرائيل الكبرى» ليست مجرد شعار سياسي، بل تهديد حقيقي للنظام القانوني الدولي بأسره.
الخاتمة
إنّ الهجوم الإسرائيلي على قطر في أيلول/سبتمبر 2025 لم يكن مجرد حادثة أمنية أو عسكرية، بل كان ضربة مباشرة للمبادئ الأساسية للقانون الدولي. هذا العمل جاء امتداداً لسجل طويل من الانتهاكات الإسرائيلية، من الاحتلال والاستيطان إلى الاعتداءات على المدنيين والبنى التحتية الحيوية. وما يجعل هذه الحادثة أكثر خطورة هو أنّها استهدفت سيادة دولة لم تكن طرفاً مباشراً في النزاع، بل كانت تقوم بدور الوسيط في مفاوضات السلام.
كما أنّ ارتباط هذا الهجوم بأيديولوجيا «إسرائيل الكبرى» يشكّل تهديداً مضاعفاً للمنطقة والعالم، إذ يقوّض شرعية الحدود ويضع النظام القانوني الدولي برمّته على المحك. وعلى المجتمع الدولي مسؤولية جسيمة في مواجهة هذا النهج. ينبغي استخدام الأدوات القانونية مثل اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، والاستفادة من آليات مجلس الأمن، وفرض الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية بشكل جاد.
فإذا لم يتصدَّ المجتمع الدولي بحزم لهذا العدوان الصارخ على سيادة قطر، فلن يؤدّي ذلك فقط إلى مزيد من إضعاف القانون الدولي، بل سيمهّد الطريق أيضاً لإضفاء الشرعية على التوسعية والاغتيال السياسي في المستقبل. وحده من خلال محاسبة المنتهكين والالتزام الجاد بمبادئ ميثاق الأمم المتحدة يمكن الحفاظ على نظام دولي يقوم على الحق، لا على القوة.


