لي مقالات كثيرة حاولت فيها تفكيك وتحليل العلاقة بين النِّظام الإيراني وحزب العمَّال الكردستاني؛ المُنحلَّ شكلاً، الموجود تحت مسمّيات عديدة في سوريا وإيران وتركيا والعراق.
النِّظام الإيراني الدِّيني الطَّائفي الثّيوقراطي، والجماعة (الكرديّة) العسكريتاريّة الإيديولوجيّة اليساريّة، جمعتهما مصالح وتقاطعات مشتركة، لن تكون هذه الأسطر رصدًا وتحليلاً لها. يكفي القول: هناك نسخة أوجلانيّة إيرانيّة تُدعى “حزب الحياة الحرّة الكردستاني”، وتعرف اختصارًا بـ(PJAK)، أو ما يمكن وصفها بالمعادل الإيراني لـ”حزب الاتحاد الديمقراطي” (PYD) في سوريا.
لم تكد تمضي 24 ساعة على الحرب التي تشنّها إسرائيل على إيران، حتّى أصدر العمّال الكردستاني بيانَ شجبٍ وإدانة للهجمات الإسرائيليّة، ووصفها بأنّها تستهدف ضرب الشُّعوب بعضها ببعض، وخلق الحروب والدَّمار، وطالب الحزب في بيانه بالحوار لحلّ المشكلات!
وفي 14/6/2025 أصدر الفرع الإيراني للعمّال الكردستاني، وأقصد حزب (PJAK) بيانًا خاصًّا ومنفصلاً حيال الأوضاع في إيران. القسم العربي لوكالة فرات للأنباء (تابعة للحزب الأوجلاني في أوروبا) نَشَر جزءاً من مضمون البيان مترجمًا إلى اللغة العربيّة، دعا فيه جماهيره إلى “تشكيل مجموعات لدعم ضحايا الحرب، وإنشاء لجان لإنقاذ الجرحى، وتأسيس هيئات للمساعدة المالية، وتعزيز الإدارة الذاتية، وتقليص التدخل الحكومي في حياة المواطنين”. وقال: “هذه الإجراءات تمثل خطوات أساسية نحو بناء مجتمع ديمقراطي يعتمد على الإدارة الذاتية والعدالة الاجتماعية”. هذا الكلام الذي في ظاهره انحياز للمجتمع والإنسان ومناهضة للحرب والصِّراع، هو نفسه الكلام المعسول الذي كان يقوله حزب الاتحاد الديمقراطي من مارس 2011 ولغاية إعلانه فرض سلطته على شمالي سوريا، تحت مسمّى “الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة”، وبقيّة تفاصيل الحكاية الأوجلانيّة معروفة في سوريا!
مع كلّ تحرُّك جماهيري، كان النِّظام الإيراني يتّهم الغرب، وتحديدًا أميركا وإسرائيل بالوقوف خلفها.
السّؤال هنا: هل تسعى واشنطن وتل أبيب إلى إسقاط نظام الملالي الذي دعمه الغرب وفرضه على الإيرانيين، ثمّ أصبح وبالاً على الشّعوب الإيرانيّة وعلى العرب ومنطقة الخليج والشّرق الأوسط والعالم؟! لأنّ المبرر الذي دفع أميركا والغرب لضرب وحصار ثمَّ قلع نظام صدّام حسين، كان “أسلحة الدمار الشّامل”، واتضح لاحقًا سقوط هذا المبرر – الحجّة. وعليه، عمليّة خلع وإسقاط النظام العراقي السّابق، استمرَّت من 1998 ولغاية 2003. بينما مبرر إسقاط النظام الإيراني أقوى بكثير من مبرر إسقاط نظام صدّام. وبالتالي، لا يمكن استبعاد فرضيّة أو مخطط الإسقاط.
وكي يسدَّ نظام خامنئي أبواب ثورة حقيقيّة عارمة في إيران بالتزامن مع القصف الذي يتعرّض له، تبدو خياراته صعبة ومحدودة. لأنّ هذا النِّظام عصفت به حركات احتجاج عديدة من 2009 ولغاية 2024، لعلّ أبرزها:
– الحركة الخضراء في يونيو 2009، التي قام بها التيّار الإصلاحي، تنديدًا بالتزوير الذي شهدته انتخابات الرِّئاسة التي أتت بمحمود أحمدي نجاد لدورة رئاسيّة ثانية.
– الحركات الاحتجاجيّة سنوات 2017 و2018 و2019 وكانت على خلفيّة اقتصاديّة.
– حركة الاحتجاجات الكرديّة التي اندلعت في مدن ومحافظات كردستان إيران عقب الإعلان عن مقتل الفتاة الكرديّة مهسا أميني (جينا أميني) تحت تعذيب شرطة الأخلاق، في 16 سبتمبر 2022.
ومع كلّ تحرُّك جماهيري، كان النِّظام الإيراني يتّهم الغرب، وتحديدًا أميركا وإسرائيل بالوقوف خلفها. في حين أنَّ السَّحق الدَّموي لكلّ تلك الحركات الاحتجاجيّة، معطوفًا عليها الضّلوع الدّموي للنّظام الإيراني في سوريا ولبنان واليمن، وتهديد أمن البحرين والكويت والسّعوديّة، لم تدفع المجتمع الدولي والغرب وأميركا لاتخاذ إجراء رادع حازم صارم ضدّ طهران. وحين وصل الأمر إلى تهديد أمن إسرائيل، تدخّلت الأخيرة بشكل منفرد، وهي مطمئنة أنَّ الدّعم الغربي سيأتي لاحقًا، ودمَّرت غزَّة وضربت “حماس” داخل وخارج فلسطين، وضربت “حزب الله”، وجماعة “الحوثي”، ثمّ جاء دور رأس الأخطبوط، بعد بتر أو شلّ أذرعه. والسّؤال: هل تمّ قطع أذرع إيران كلّها؟ والإجابة؛ لا. بقي “الحشد الشَّعبي” الشّيعي العراقي، والحشد الأوجلاني في إيران والعراق.
وبحسب بيان “العمّال الكردستاني” وفرعه الإيراني، السّالفي الذّكر؛ تتجه طهران إلى منح سلطة وإدارة مناطق كرديّة إيرانيّة لهذه الجماعة، بهدف ضبط الأمن وتحييد كرد إيران، وتخفيف الضَّغط على جيش وأمن النِّظام، حتّى يتفرّغ الأخير لمعركته. يعني تطبيق سيناريو يشبه سيناريو “روجافا – الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة” التي كانت في ظاهرها مُعارِضة لنظام الأسد، لكن من تحت الطّاولة كان هناك تنسيق أمني وسياسي واقتصادي مشترك معه.
حاولت واشنطن إقناع فرع الكردستاني في إيران بالدخول في مواجهة النِّظام الإيراني، إلاّ أنَّ الجماعة الأوجلانيّة رجّحت كفّة مصالحها مع طهران على كفّة حريّة الشّعب الكردي من ظلم وقمع.
في حال تحقق المشروع المشترك بين نظام طهران والجماعة الأوجلانيّة، والمؤشّرات تفضي إلى ذلك، فغالب الظنّ أنّ تركيا لن تعارض ذلك. لأنّها نددت بالهجمات الإسرائيليّة. واعتبر دولت بختشلي، (شريك أردوغان في الائتلاف الحكومي)، أنّ “الهدف المقبل سيكون تركيا” في إشارة منه إلى نيّة أميركا تفكيك دول المنطقة..، إلى آخر هذه السرديّة التي يكررها أردوغان وأوجلان وبختشلي على حد سواء وبشكل متناغم. يعني، ليس من مصلحة تركيا إسقاط النِّظام الإيراني بأيدي أميركيّة – إسرائيليّة، مثلما لم يكن من مصلحتها إسقاط نظام صدّام حسين.
النُّخب السِّياسيّة الكرديّة الإيرانيّة، تُقِر بوجود هكذا مشروع، إلاّ أنّها تقلل من احتماليّة نجاحه، بسبب وجود قوّة عسكريّة مسلّحة تابعة للأحزاب الكرديّة الإيرانيّة، مناهضة للحزب الأوجلاني الإيراني، ولن تسمح له بفرض سيطرته على مدن ومحافظات كردستان إيران، كما فعل الحزب منتصف 2011 في المدن الكرديّة السوريّة. ذلك أنَّ الأحزاب الكرديّة السُّوريّة منذ نشأتها هي أحزاب سياسيّة اعتمدت النِّضال السِّلمي المدني، ولم تتبنَّ الخيار العنفي المسلّح في مواجهة نظام دمشق وحليفه العمّال الكردستاني!
تجب الإشارة إلى أنّه في سنة 2009 وفي أثناء اتساع رقعة حركة الاحتجاجات الإيرانيّة (الخضراء)، دعا البنتاغون حاجي أحمدي؛ الزَّعيم السّابق لحزب (PJAK)، إلى واشنطن مرّتين بشكل سرّي، وطلبت منه مشاركة حزبه في الاحتجاجات، وسيلقى الدَّعم بالمال والسِّلاح من واشنطن، إلاّ أنَّ جميل بايق زعيم الكردستاني في جبال قنديل، رفض ذلك بشكل مطلق.
مقصدي؛ حاولت واشنطن إقناع فرع الكردستاني في إيران بالدخول في مواجهة النِّظام الإيراني، إلاّ أنَّ الجماعة الأوجلانيّة رجّحت كفّة مصالحها مع طهران على كفّة حريّة الشّعب الكردي من ظلم وقمع ونظام طهران الذي كان ينفذ أحكام الإعدام بحقِّ العشرات من النّاشطين السِّياسيين الكُرد.
وعليه؛ ربّما يتمّ تأجيل جدولة نزع سلاح العمّال الكردستاني من قبل تركيا، لأنّ وجود أو بقاء هذا السّلاح الآن سيدخل في مصلحة طهران وأنقرة على حدّ سواء. وفي أضعف الإيمان، سيتمّ إيهام الرّأي العام التركي بترتيب نزع سلاح الحزب ظاهريًّا، لكنه سيدخل في مهمّة الوقوف في وجه أيّ كيان مستقلّ أو فيدرالي، ربّما يفرض على إيران في المستقبل القريب. هذا من جهة، من جهة أخرى؛ الأذريون وإقليم أذربيجان – إيران، هم تحت سيطرة أنقرة، سواء بشكل مباشر أم عبر حكومة جمهوريّة أذربيجان. ويبقى العرب السنّة خارج السَّيطرة التركيّة والإيرانيّة، بالإضافة إلى الشِّيعة السَّاخطين على نظام الملالي.
حاصل قولي: إذا خرج النِّظام الإيراني من هذه الأزمة سليمًا، حتّى ولو على ركام وأنقاض بلد منهار، فإنَّ سقوطه أو إسقاطه سيكونان من رابع المستحيلات.