في الزمن الذي تُدار فيه الحروب بقدر ما تُدار في الميدان تُدار في الوعي، تُطلّ علينا ماكينة الإعلام الغربي، بقيادة البيت الأبيض، بسلسلة من التصريحات المنفلتة التي لا تستند إلى استراتيجية بقدر ما تستند إلى خطاب هستيري، يتزعمه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وكأننا أمام مسرحية هزلية كُتب نصها تحت وطأة الفشل.
فها هو ترامب يلوّح مجدداً بـالتدخل المباشر في الحرب الإسرائيلية على إيران، ويُعلن بلغة متعجرفة أن أمريكا ستخوض تلك “المعركة القذرة” كما أسماها. لكن، كما في كل مرة، تأتي الحقيقة على النقيض تماماً مما يُعلن: إيران ليست على وشك الانهيار، بل هي في موقع متماسك وفاعل، تُدير المواجهة بصبر استراتيجي، وتحمل في جعبتها أوراقاً لم تُكشف بعد.
*الحرب النفسية – أدوات العاجز*
إن ما يُبثّ من تهويل إعلامي ليس إلا غطاءً على مأزق حقيقي تعيشه المنظومة الغربية، في ظل انكشاف المنظومة الدفاعية الإسرائيلية أمام الضربات الإيرانية. فحين تعجز القبة الحديدية، وتتعطّل الدفاعات الجوية، وتُصاب مراكز القيادة، لا يبقى أمامهم سوى التصعيد اللفظي، في محاولة بائسة لطمأنة الداخل الإسرائيلي والأمريكي معًا.
التهويل ليس جديداً. فقد سبق لترامب أن وعد العالم بأنه “سيمحو حماس”، وأنه “سيسيطر على غزة”، وأنه “سيحرر الرهائن”. والنتيجة؟ حماس لا تزال تمسك بالأرض، وتحتجز الرهائن، فيما يعيش الكيان في حالة من الشلل العسكري والسياسي غير المسبوق. ذات الوهم تكرر في اليمن، حين صرخ ترامب بأنه “سيبيد أنصار الله”، فإذا به يتوسل عبر العمانيين وقف الحرب، ويتعهد بألا تُستهدف السفن الأمريكية في البحر الأحمر.
*إيران بين الصبر والقوة*
إيران، في المقابل، تمضي في مسار مختلف تماماً. لا تبحث عن استعراض عضلات في الإعلام، بل تمارس ما يمكن تسميته بـ”فن إدارة القوة الصامتة”. فهي لم تستخدم سوى الحد الأدنى من قدراتها حتى اللحظة، وتُدير المعركة بميزان دقيق بين الردع والاحتواء. القيادة الإيرانية، وعلى رأسها السيد القائد علي الخامنئي، تدرك جيداً أن المعركة تتجاوز بعدها العسكري إلى أبعاد أكثر تعقيداً: الجغرافيا السياسية، الرأي العام، موازين القوى الإقليمية.
وفي حين يصرّ ترامب على استخدام لغة الاغتيالات والتهديدات المباشرة، زاعماً أنه يعرف مكان وجود السيد الخامنئي وقادر على استهدافه، فإن هذا لا يُعدو كونه تعبيراً فجّاً عن العجز، أكثر مما هو إعلان قوة. فالدولة التي تعرف كيف تحافظ على سيادتها، وتُمسك بجبهاتها، وتُبقي قرار الحرب والسلم بيدها، لا تُرهبها التهديدات، بل تزداد صلابة كلما تصاعد التهديد.
*قراءة في مآلات المواجهة*
السؤال الجوهري اليوم لم يعد: هل ستشارك الولايات المتحدة في الحرب؟ بل أصبح: ماذا تبقّى لأمريكا لتفعله بعدما انهارت أدوات الردع التي لطالما تباهت بها؟ فالميدان لم يعد يُحسم بطائرات الشبح ولا بالغواصات النووية فقط، بل بات ساحة لصراع عقول، وكسر إرادات، وصياغة سرديات.
لقد زوّدت أمريكا الكيان الصهيوني بكل ما تملكه من منظومات دفاع جوي متطورة: من باتريوت إلى آرو-3، آرو-2 ، ومن القبة الحديدية إلى منظومة “مقلاع داوود”، في محاولة يائسة لخلق مظلة تحمي سماء تل أبيب من الصواريخ الإيرانية. لكن هذه المنظومات فشلت فشلاً ذريعاً في التصدي للضربات المركبة، التي استخدمت فيها إيران حتى الآن أسلحةً لم تُجرّب من قَبل، وأبقت الجزء الأكبر من ترسانتها المتطورة طي الكتمان. هذا وحده مؤشر على أن ما خفي أعظم، وأن طهران ما زالت تمسك بأوراق استراتيجية لم تُكشف بعد.
وفي حال قررت واشنطن الانخراط المباشر في هذه الحرب، فعليها أن تُعيد تقييم الموقف جيداً، لا من زاوية القوة المجردة، بل من زاوية حجم الخسائر المتوقعة. فهناك ما يُقارب على 41 ألف جندي وضابط أمريكي منتشرين في قواعد ممتدة من الخليج إلى العراق وسوريا وتركيا، جميعهم سيصبحون تحت رحمة الصواريخ الإيرانية الفرط صوتية، التي لا يمكن رصدها ولا اعتراضها بسهولة. أي ضربة دقيقة على قاعدة واحدة فقط قد تعني انهيار الهيبة الأميركية في المنطقة بأسرها.
إن إيران اليوم لا تخوض هذه المواجهة فقط للدفاع عن أراضيها، بل تخوضها دفاعاً عن مبدأ السيادة، ورفضاً للابتزاز الإمبريالي الذي تحاول واشنطن فرضه على المنطقة منذ عقود. إن كل تصريح متشنج يخرج من العواصم الغربية، وكل تهديد جوفاء يُطلقه البيت الأبيض، لا يزيد طهران إلا ثباتاً، ولا يزيد واشنطن وتل أبيب إلا ارتباكاً.
*النصر ليس بعيداً*
إن ما يحدث اليوم ليس نهاية معركة، بل بدايتها الحقيقية. والمفاجآت لم تأتِ بعد. وإيران، كما وعد قائدها، لم تُخرج بعد أوراقها الكبرى، ولا كشفت عن قدراتها النهائية. لكن المؤكد أن زمام المبادرة انتقل، وأن مسرح الصراع لم يعد تحت سيطرة البيت الأبيض، بل أصبح ساحة مفتوحة تعاد فيها كتابة المعادلات من جديد.
وإذا كان خصوم إيران يُراهنون على وهن الداخل الإيراني، فإنهم يُخطئون التقدير مجدداً. فالشعوب التي تتعرض للعدوان لا تنكسر، بل تشتد. والنظم التي تحكمها العقيدة والبصيرة لا تنهار، بل تُعيد تنظيم صفوفها كلما ازدادت التحديات.
وها نحن اليوم نقترب من مشهد النصر… ذاك الذي وُعِدنا به، وبدأت ملامحه تُرسم على وجوه القادة، وعلى وقع صواريخ العزّة، وفي ظلال رايات لا تنكسر.