تتقدّم إيران اليوم وحدها إلى قلب الميدان، تقف في مواجهة مفتوحة مع كيان مدعوم من كل قوى الهيمنة العالمية. ليست هذه مجرد معركة عابرة بين دولتين، بل مشهد كاشف لانهيار أخلاقي شامل، وانكشاف حجم التواطؤ والصمت المُخزي.
في لحظة تاريخية تختلط فيها الحسابات والمخاوف، وتذوب فيها الفوارق بين “الحياد” و”الخذلان”، تعلن طهران – بما تمتلك وما تفتقد – أنها لن تكون جزءاً من خريطة الشرق الأوسط الجديد المرسومة في تل أبيب وواشنطن. بينما اختارت أنظمة عربية أن تنسحب من التاريخ، اختارت إيران أن تكتبه بدماء أبنائها.
هذه ليست قراءة عاطفية، بل محاولة لفهم مشهد بالغ التعقيد، يتداخل فيه السياسي بالعقائدي، والعسكري بالإعلامي، والمعلن بالمستور. فهل ما يحدث اليوم هو بداية النهاية للمشروع الإسرائيلي؟ أم لحظة مفصلية تؤكد أن المقاومة، رغم جراحها، لا تزال ممكنة؟
يكفي إيران شرفاً أنها تقف اليوم على خط النار في مواجهة المشروع الصهيوني-الأميركي، عارية الظهر من أي دعم اقليمي أو دولي عربي أو اسلامي، ولكنها متسلّحة بشعب مؤمن بعدالة قضيته، وبقيادة لم ترتهن لا للبيت الأبيض، ولا للكيان اللقيط، ولا لمكاتب التنسيق الأمني. فحين تتخلى دول بأكملها عن شرف الدفاع عن فلسطين، تتقدّم طهران لتحمل راية المواجهة، وتدفع ثمن مواقفها من أمنها الداخلي حتى اقتصادها، دون أن تساوم على المبادئ.
وما جرى من ضربات ضد تل أبيب في الأيام الماضية، وإن كان محدوداً في التأثير العسكري، وذلك بسبب أنظمة الدفاعات المتعددة والمنتشرة التي تبدأ من الامارات والاردن وطائرات رافال الفرنسية وحاملات الطائرات الامريكية مثل يو أس أس, وطائرات تايفون البريطانية, ونظام الدفاع الجوي الاسرائيلي, أرو3، أرو2 , ومقلاع داود, والقبة الحديدية، التي تعترض الصواريخ البالستية. ورغم هذه الدفاعات الهائلة والمعقدة، لاتزال الصواريخ الايرانية تنجح احياناً في اختراقها واصابة أهدافها بنجاح. إلا أنه حمل رسالة كبرى للعالم: هناك من لا يزال يرى في “إسرائيل” كياناً محتلاً، لا شريكاً في مشاريع السلام والتطبيع المزيف. لقد شاهدنا مدناً تحت القصف، وملاجئ ممتلئة، وصواريخ تُطلق ليس من أجل استعراض القوة، بل رداً على اغتيالات واعتداءات متكررة أراد العدو أن يجعلها واقعاً دائماً لا يرد عليه أحد.
*المعركة ليست صواريخ فقط*
لكن المواجهة بين إيران و”إسرائيل” ليست فقط معركة صواريخ ومسيرات. إنها صراع بين مشروعين:
- مشروع يحلم بشرق أوسط جديد على مقاس تل أبيب وواشنطن، تكون فيه الشعوب مُستهلَكة، والأنظمة مرتهَنة، والقضية الفلسطينية طيّ نسيان.
- ومشروع آخر يسعى لبناء محور مقاوم، يمتد من طهران إلى صنعاء، ومن الضاحية إلى بغداد ودمشق، يعيد الاعتبار لمعنى السيادة الوطنية، ويعيد الاعتراف بأن فلسطين ليست عبئاً، بل شرفاً.
في هذا السياق، لم تعد المسألة مجرد دفاع عن إيران، بل دفاع عن مفهوم الكرامة السياسية، الذي غاب عن أنظمة رهنت قرارها بالكامل للغرب، ووضعت سيف التطبيع فوق رقاب شعوبها، متذرعة بالمصالح الاقتصادية والخوف من العزلة.
*التحليل السطحي لا يُفسر التاريخ*
ما يؤسف في هذا المشهد، هو تسابق بعض الأصوات العراقية والعربية – الأكاديمية منها والإعلامية – على إنتاج تحليلات أقرب إلى الأهواء منها إلى العلم، ترصد نقاط ضعف إيران، وتضخّم حجم الرد الإسرائيلي، وتتجاهل حجم الرد والتحدي الكبير وعمق المعركة ومآلاتها الاستراتيجية. هؤلاء يخلطون بين التحليل والشماتة، وبين الموقف المهني والاصطفاف المسبق.
التحليل العلمي لا يعني الحياد الأخلاقي، بل يستلزم إدراك أن هذه المواجهة ليست استعراضاً إعلامياً، بل امتداد لصراع عمره أكثر من سبعين عاماً، تشكلت فيه معادلات الردع والمقاومة، وتحولت فيه قوى الممانعة إلى أطراف فاعلة على الأرض. من يقلل من قيمة هذه المعركة بحجة التوازنات العسكرية، إنما يتجاهل التاريخ والجغرافيا، ويتناسى أن كل نصر رمزي اليوم، هو تراكم يُحدث شرخاً في جدار الهزيمة العربية الطويلة.
*حتى لو هُزمت إيران عسكرياً..*
حتى لو افترضنا، جدلاً، أن إيران هُزمت عسكرياً، فإنها لم تُهزم معنوياً ولا أخلاقياً. لأن الهزيمة الحقيقية تكمن في الاستسلام، والتطبيع، وغسل الأدمغة، وتغيير الأولويات. أما من قاتل دفاعاً عن قضيته، ودفع الثمن، ورفض أن يكون تابعاً، فإنه يصنع التاريخ حتى في سقوطه.
أما الطرف الآخر، الذي اختار الصمت أو التواطؤ، أو اكتفى بتحليل يائس وبائس مفرغ من الانتماء، فهو الطرف المهزوم سلفاً، حتى لو ظن أنه في موقع المنتصر. المستقبل لا تصنعه الجيوش فقط، بل تصنعه الإرادات. وما نراه اليوم هو اختبار حقيقي للإرادات في هذه المنطقة. من يقف مع إيران لا يقف فقط مع دولة، بل مع حق الشعوب في أن تقرر مصيرها، ومع رفض الإملاءات الأجنبية، ومع إعادة تعريف الأمن القومي من زاوية الكرامة، لا فقط من حسابات البقاء.
وإذا كانت إيران قد اختارت المواجهة، رغم كل ما يترتب على ذلك، فإنها قد منحت العرب فرصة أخيرة كي يراجعوا خيباتهم، ويعيدوا النظر في تحالفاتهم. لأن سقوط إيران – إن حدث – لن يكون سقوط نظام، بل سقوط فكرة المقاومة ذاتها. عندها فقط، سيتحقق الحلم الإسرائيلي القديم: شرق أوسط بلا روح، بلا قضية، وبلا كرامة.