في سياقات الحراك الثقافي والاجتماعي، لم يكن حضور الندوات والمجالس الفكرية مجرّد تفاعل عابر، بل لطالما عُدّ مظهرًا من مظاهر النضج الجمعي، ووسيلة لتعزيز الحوار، وتبادل المعرفة، وبناء العلاقات التي ترتكز على الاحترام والمشروع المشترك.
لكنّ الملاحظة الدقيقة، بعد سنوات من الممارسة والاحتكاك، تكشف عن ظاهرة مستجدة – وإن كانت قديمة في بنيتها النفسية – وهي تحوّل بعض الحضور من شركاء في الفكرة إلى مقتنصي علاقات، وصيّادي أرقام، ومتسللين إلى البُنى الاجتماعية من بوابة المجاملة.
إن هذا الحضور “المرن”، الذي لا يترك أثرًا فكريًا، ولا يقدّم إضافة حقيقية،
يُمارَس باسم التفاعل، لكنه في جوهره قائم على ثقافة الوصول لا ثقافة المساهمة،
وعلى النفعية الذاتية لا المسؤولية الاجتماعية.
فهؤلاء لا يحضرون للمشاركة في إنتاج معرفة، بل لحجز موقع في المشهد،
ولا يستمعون من أجل الفهم، بل يراقبون من يتكلمون، من يجلسون، من يُدعَون، ليخرجوا بعد اللقاء بشبكة أرقام وهواتف وصور، يُعيدون استخدامها خارج سياقها الأصلي.
هكذا تتحوّل ضيافة الفكرة إلى سوق اتصالات، و”المعرفة” إلى “معبر اجتماعي”،
وتُمسَخ العلاقات الفكرية النبيلة لتُختزل في قوائم جهات الاتصال، تُستَخرج منها المصالح أو التسويق الشخصي.
والظاهرة لا تقف عند هذا الحد،
بل رُصد – في أكثر من مركز ومجلس ومنتدى – أن بعض هؤلاء حين يُتاح لهم التعارف على شخصيات فاعلة،
لا يعودون إلى الدائرة التي عرّفتهم بها، ولا يراعون أدب التدرّج، ولا يحفظون سياق العرفان،
بل يُقدّمون أنفسهم بعد ذلك كفاعلين مستقلين، أو “مهتمين”، أو “إعلاميين”، أو “شركاء”، أو حتى “منظّرين”،
ويقومون بعد فترة وجيزة بإنشاء قروبات، أو تأسيس مبادرات مكررة، أو نشر صور مع شخصيات كانوا قد عرفوهم من خلال مجالس الآخرين،
وكأنَّ المعرفة تُؤخذ باللقطة، لا بالسيرة،
والوجاهة تُنتزع بالاحتكاك، لا تُبنى بالتكوين.
هذا السلوك يعكس – في جوهره – أزمة أنثروبولوجية في فهم الوظيفة الاجتماعية للفكر.
فالمجالس الفكرية ليست فضاءات مفتوحة للمصلحة الشخصية، بل مواسم تربية على الالتزام، والحضور فيها تكليف لا تملق.
ومن يَدخلها بنية النفاذ، لا بنية المشاركة، فإنه يُخِلّ بأساس العلاقة الثقافية القائمة على الاحترام المتبادل.
أما من الناحية المعرفية (الإبستمولوجية)، فهذه الظاهرة تُنذر بانحدار معيار التلقي:
حين يُصبح الأثر الاجتماعي مبنيًا على الوفرة الرقمية لا على المحتوى،
وحين تَصعد أسماء بلا أثر، لمجرد براعتها في التسرّب، لا في التعبير،
وحين يُقدَّم من تكرّر حضوره، لا من صدق عطاؤه،
فالمجتمع يفقد بوصلته، ويتحول “الحضور” من فعل معرفي إلى مكياج اجتماعي.
ومن التجربة، وبعد سنين من إدارة المجالس واللقاءات والمنتديات،
أصبح من الواضح أن كثيرًا من الحضور لا يأتون احترامًا للمنبر، بل لما قد يجنونه منه،
وأن بعض من ظهرت أسماؤهم على الساحة، لم يكونوا أبناء فكرة، بل أبناء صدفة، أو صورة، أو رقم، أو قروب.
لهذا نقول: ليس كل من حضر، حضر لوجه الفكرة،
وليس كل من اقترب، أراد المشاركة.
فكثرة الحضور لا تعني عمق الأثر،
بل قد تعني في بعض الأحيان:
كثرة اقتناص… وقلّة وفاء.
ومع كل هذا، فإننا نُدرك – عن وعي وتجربة – أن هذه الفئة لا تُمثّل الأغلبية،
بل هي شريحة محدودة لا تؤثر على جلال أولئك الذين يحضرون بدافع الإيمان بالفكرة، والشعور بالمسؤولية، واحترام المنبر.
فهؤلاء – وهم كثر ولله الحمد – هم زينة المجالس، ووقود الحوار، وهم من لأجلهم نُقيم اللقاءات، ونُواصل الطريق رغم العوائق.
والتاريخ لا يذكر مَن مرّ، بل من أثمر.
ولا يحفل بمن اقتنص، بل بمن زرع، وصبر، وسقى.
22-05-2025