Search
Close this search box.

كثرة الخطباء… وقلّة الخطاب سلسلة: كثرة بلا أثر (١٢)

كثرة الخطباء… وقلّة الخطاب سلسلة: كثرة بلا أثر (١٢)
رتفع المنابر، ويزداد عدد الخطباء، وتتسابق المجالس لاستقطاب الأصوات،لكن ما يلفت النظر ليس وفرة الحضور، بل هشاشة الخطاب...

في كل موسم، ترتفع المنابر، ويزداد عدد الخطباء، وتتسابق المجالس لاستقطاب الأصوات،

لكن ما يلفت النظر ليس وفرة الحضور، بل هشاشة الخطاب،

وما يُقلق ليس قلّة عدد العلماء، بل كثرة من يتكلم بغير علم.

تحوّل بعض المنابر إلى منصات استعراض وتسلّط،

لا يُراجع الخطيب فيها ما ينقله، ولا يتحرّى في ما يُنسب،

يتحدث وكأنه مرجع في التاريخ، أو متقن لعقائد الفرق، أو فقيه في الأحكام،

ثم يُنزل استنتاجاته على الناس، فيُقسّم المجتمع، ويُثير العصبية، ويضرب الوحدة،

كل ذلك باسم الحسين (عليه السلام)، وباسم المنبر الحسيني.

لقد اختُزل الخطاب عند بعضهم إلى نقل الأخبار دون توثيق، وتكرار الروايات دون تمحيص،

بل وحتى تلفيق بعض القصص لمجرد الإثارة أو التأثير،

وكأن المأساة لا تكفي بما فيها من صدقٍ وعظمة،

فتُضاف إليها “بهارات الخيال”، و”إضافات لا أصل لها”،

وهو ما حذّر منه الأئمة مرارًا، وأكّدوا أن الكذب عليهم كذبٌ على الله.

وفي خضم هذا التسيّب، نُدرك أكثر حجم الفقد حين نذكر الدكتور الشيخ أحمد الوائلي (رحمه الله)،

الخطيب الذي لم يكن مجرد قارئٍ لمقتل،

بل كان عقلًا يُفكّر، ولسانًا يُوازن، ومنبرًا يُربّي.

كان إذا تحدّث في التاريخ، أحالك إلى المصدر،

وإذا قرأ الرواية، بيّن سندها، ووزن معناها، وشرح سياقها،

وإذا خاطب الجمهور، خاطب عقلهم قبل عاطفتهم،

فجعل من المنبر مدرسة توحيد، لا منبرًا لتمزيق المجتمع.

لقد وضع الوائلي نموذجًا لخطيبٍ متكامل:

يقرأ بنص، لا انفعال،ويُعلّم لا يُحرّض،ويُنضج لا يُهيّج.

لأنه كان يفهم أن “الخطيب مسؤول عن أثره”،

وأن كل جملة غير موثقة، قد تزرع فتنة، أو تنقل كذبًا، أو تُحمل على الدين ما ليس منه.

واليوم، وقد ازدحم المنبر بالأصوات،

صرنا نرى من لا يملك خلفية علمية، ولا معرفة دقيقة،

ينقل القصص الغريبة، ويبني الخطبة على إشاعة، أو رواية لا أصل لها،

ثم يخرج منها بفتوى جماهيرية، أو تحريض طائفي، أو إسقاط اجتماعي،

وكأن الخطيب أصبح هو المتحدّث باسم الدين كله.

وهنا تكمن الكارثة:

فكل من ارتدى عباءة، وظنّ أن ارتفاع صوته علامة على ثقل فكرِه،

أفسد من حيث أراد أن يُحسِن،

وحوّل المنبر من مَعلَم توجيه… إلى مسرح استعراض.

كثرة الخطباء لا تعني نهضة دينية،

ما لم يصحبها وعي بالمسؤولية، ورجوع إلى المصدر، وإدراك لحساسية الكلمة.

فالكلمة إما شهادة… أو سلاح قاتل.

ومن لا يزنها، فقد ضيّع رسالة الحسين،

حتى لو بكى الناس معه، وصفقوا له، وأعادوا نشر مقاطعه آلاف المرات.

وسيأتي شهر محرّم الحرام،

وتعود المجالس، وتُرفع الرايات، وتُضاء الساحات،

لكن يبقى السؤال قائمًا: من يُقدَّم على المنبر؟

إن مسؤولية أصحاب المجالس في هذه الأيام ليست ثانوية،

فهم حين يختارون من يُلقي الكلمة، يُشاركون في رسم صورة الإمام الحسين (عليه السلام) في ذهن الناس.

فإذا اختاروا أصحاب الشهرة، لا أصحاب الخبرة،

وأعطوا المنبر لمن يبكي، لا لمن يُفكّر،

فهم – من حيث لا يشعرون – يساهمون في تشويه أهداف النهضة، وتقزيم مقام الثورة،

ويُقصون أهل العلم والوعي لصالح الأصوات العالية أو الأسماء اللامعة على “السوشال ميديا”.

إن صوت الإمام الحسين لا يُختزل في طبقة صوت،

ولا في بيت شعر،ولا في قصة تبكي الجمهور،بل في فكرٍ يوقظ الأمة،وعيٍ يُقاوم الانحراف،ومعرفةٍ تُرشد الطريق.

ومن لا يحمل هذا، فلا ينبغي أن يُصعّد إلى منبر الحسين،

وكل من يُقصي أهل العلم، فهو مسؤول أمام الله، ثم أمام التاريخ.

25-05-2025

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *