صار المشهد مألوفًا في العراق:
برامج حوارية يومية، وجلسات تحليل لا تنقطع، وضيوف “خبراء” يظهرون باستمرار على الشاشات، يتحدثون عن كل شيء: الأمن، السياسة، الدين، الاقتصاد، التربية، وحتى العلاقات الدولية!
لكن النتيجة واحدة: كلام كثير، وفهم قليل، وتغيير شبه معدوم.
تتساءل وأنت تشاهد أحدهم:
هل هو فعلاً خبير؟ هل يملك خلفية معرفية؟ هل يتكلم من منطلق علمي؟ أم أنه فقط يحترف الظهور، ويتقن رفع الصوت، والتلاعب بالمصطلحات؟
المشكلة ليست في أن نُحلّل، فالمجتمع بحاجة لمن يشرح ويُفسر ويكشف،
بل في أن يصبح التحليل مجرد كلام مُنمّق، لا يُنير الوعي ولا يُغير الواقع.
في كل قناة، محلل استراتيجي، وأكاديمي، ومتخصص بالشأن العراقي، و”صوت مستقل”…
لكن كم من هؤلاء قدّم شيئًا جديدًا؟
كم منهم خرج عن الخطاب المُعلّب؟
كم منهم تحدّث بجرأة بعيدًا عن التوجيه الحزبي أو التمويل الإعلامي؟
الأدهى أن بعض هؤلاء يتنقّل من قناة لأخرى دون تطوير في الطرح، ويكرر العبارات نفسها، ويبدّل فقط في تعبيراته.
يعيش على وهم “الخبير”، لكنه في الواقع مجرد مروّج لمواقف جاهزة، أو تابع لهذا الطرف أو ذاك.
ليست كل المشكلة في قلة التأهيل العلمي، بل في ضعف الضمير المعرفي.
التحليل ليس تسلية، بل مسؤولية.
فأنت حين تتكلم للناس، فإنك تشكل وعيًا، وتؤثر في قرارات، وتغرس مفاهيم.
فهل يُعقل أن يكون لكل قضية حساسة في البلد، نفس الوجوه ونفس الأصوات، دون تجديد، دون تمحيص، دون إفساح المجال لعقول شابة أو رؤى غير تقليدية؟
فاذا كنا ننتقد التكرار الرتيب في الخُطب الدينية ونقول انه يُميت القلوب،
فكذلك التكرار السطحي في التحليل السياسي يُميت العقول.
ما يُقال اليوم في برامج الحوار، هو غالبًا إعادة إنتاج للغموض، لا لكشفه.والا هل سمعتم في برامج الحوارات السياسية غير العراقية مفردة ( ماريد اكول) او ( ملف ضامينه) او غيرها من مفردات حتى المقدمين من قالت العصفوره ورباط السالفه ؟ اين المصادر واين المكاشفة !!!
ومع ذلك، تُقدَّم هذه الشخصيات كأنها “مصادر ثقة”، بينما الواقع يزداد التباسًا، والناس تزداد حيرة.
بقول الله تعالى:
“ولا تقفُ ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولًا” [الإسراء: 36].
كل من يتكلم أمام الناس، سيسأل عمّا قال، وعمّا أغفل، وعمّا زوّر أو ساير أو مجّد بلا دليل.او هدم بلا ضمير أو بهت او انهم على المزاج.
لكل محلل صادق، يقرأ الواقع بعين علمية، ويقف موقفًا أخلاقيًا، ويجتهد في التفكيك والتفسير والتنوير:
أنت صوت ضروري، لا تتراجع، واصنع الفرق.بين صراع الديكة كما اسميّ بعضها وبين المعلومة والحقيقة وتنوير المتلقي.
ولكل من يتصدر الشاشات لمجرد الظهور، أو المصلحة، أو التلميع:
اعلم أن صوتك قد يُسمع، لكن تأثيره لا يُحترم، والوعي لا يُبنى على الحضور الإعلامي، بل على المصداقية وخصوصا لمن لديهم تقلبات انتمائية وكل يوم هم في جهة .
نحتاج إلى تحليل يكشف لا يُجمّل، ويشرح لا يُضلّل، ويطرح الأسئلة لا يردد الإجابات الجاهزة.
أما كثرة الأصوات بلا قيمة تحليلية، فهي ضجيج يلبس ثوب المعرفة… لكنه لا يصنع إلا مزيدًا من التيه.
ومازلت اكرر طلبي قبل ايام بايقاف البرامج السياسية واستبدالها ببرامج ثقافية توعوية للابتعاد عن الطائفية والمزايدات ورؤية بعض الشخصيات التي تظهر اكثر من الفنانين بلا نفع او اثر.
واختبار برامج السياسة العلمية التي تستدعي المختصين لرفع منسوب الوعي وتجعل المشاهد الكريم يفكر بأريحية لا ضبابية فيها ولا التباس.
يتبع.
8-05-2025