Search
Close this search box.

المبدع زيد الشهيد السماوة في القرن العشرين

المبدع زيد الشهيد السماوة في القرن العشرين
لعلّ أجمل وأعذب وأرسخ الكتابات التي تخلد في سفر الإبداع حينما يكتب الأديب رؤيته لتاريخ مدينته..حينما يمتزج التاريخ بالرواية والقصة والحكايا...

تمهيد :

لعلّ أجمل وأعذب وأرسخ الكتابات التي تخلد في سفر الإبداع حينما يكتب الأديب رؤيته لتاريخ مدينته..حينما يمتزج التاريخ بالرواية والقصة والحكايا يشكل سردية واقعية للأزمنة والأمكنة بلغة رشيقة محببة بصياغتها بالتعبير عن الأحداث التي تمر بكل المدن عند تشكلها وتكوينها وفي إضمحلالها وازدهارها .

المقدمة :

تدوين الأحداث التاريخية بالمدن بكل محمولتها بحاجة إلى ذاكرة المبدع ، وقدرته على توظيف الكتابة غير النمطية من خلال حفريات معرفية بالمكان وصخب الحياة مع حيادية بالسرد. إمكانية البارع  زيد الشهيد من خلال القدرة بتطويع لغته القصصية والروائية والشعرية الخصبة أنتجت لبلاد مابين النهرين أكثر من ٣٣ كتاباً بكافة الأجناس الأدبية من ترجمة ودوواين شعر ومجاميع بالقصة والرواية .

تاريخ السماوة:

بما يقارب ٦٠٠صفحة بجزأين إجتهد فارس اللغة زيد الشهيد بسردية المكان عن مدينته الجنوبية الحالمة.. التي تغفو جذلى على نهر الفرات ليوزع نخيلها على ضفتيه ، السماوة الجميلة كفتاة سمراء ممشوقة القوام جعلت مطرب العراق حسين نعمة يغني أجمل أغانيه نهاية الستينيات لترددها الأجيال ليومنا المعاصر .

ماهية السرد التاريخي :

بكتابه “السماوة في القرن العشرين الجزء الأول ” كتب المؤلف ص ١١ :

(( تكتسب تأرخة الواقع اليومي أهمية لايمكن تجاهلها. ويغدو التاريخ المكتوب نحتا على صوان الزمن، لايمكن محوه ))

((واقع هذه المدينة يشير الى أنها بكيانها كمدينة ومعها اريافها، بمثقفيها وعشائرها خاضت نضالات لاتعرف الكلل وقدمت التضحيات أنهاراً من دماء ، وجبالاً من آهات وأوجاع .كل هذا لايجب أن يبقى أسير التهميش ولا أن يترك بلا تدوين.. ))

رؤية بالسردية التاريخية :

تسلح الأديب زيد الشهيد بالوعي التاريخيّ الذي حصنه من الوقوع بخطل روايته وجعله ملماً بالتفاصيل الثرية بالجغرافية والتاريخ، و لكل تفاصيل مدينته من الناحية الانثروبولوجية من الحضارة السومرية ليومها المعاصر، فكان كتابه بجزأيه إنطولوجيا معرفية بالأحداث ، وإنسكلوبيديا معرفية.. تفاصيل يومية وتاريخية بقلمه الرشيق الجميل أكد فيها : ((يوم قدم الانكليز كمحررين على لسان الجنرال مود وليسوا فاتحين أول ما فكروا فيه هو ربط العراق من شماله إلى جنوبه بمواصلات سهلة توفر له يسر الاتصال في الحركة والنقل . ولكونهم نجحوا في تجربتهم في الهند عندما استعمروها فقد أرادوا لهم النجاح أيضاً في العراق ، فمدوا شبكة من السكك الحديد  وحركوا فوقها القطارات الحديدية التي نظر لها الناس على أنها  من أعمال السحر . إذ كيف تسير كل هذه الكتل الحديدية على سكة رفيعة ولا تميل أو تسقط . وبمرور الأيام تآلفوا معها ونسوا هذا السؤال المحيّر حتى وإن لم يحصلوا على جوابٍ له .

ولقد وجد الانكليز أن الأرض القريبة التي تتطلب مرور سكة القطار عليها هي من ممتلكات بربوتي فاتفقت معه على منحه مبلغ من المال لكي يتم ذلك ؛ وتجاوز الأمر إلى بناء جسر يربط ضفتي الفرات  ؛ وكان هذا في العام(  1918 ) فكانت أرض بربوتي هي الضفة الجنوبية وأرض ” البُركات” هي الشمالية التي تتجه باتجاه بغداد . وقد نصب الانكليز على الجسر إضافة لمرور العربات خطاً للسكك الحديد يمر عليها القطار القادم من بغداد إلى البصرة وبالعكس . وتولّى بربوتي من جهته حماية القطار وحركته . ومنذ لك اليوم أطلق على الجسر اسم ” جسر بربوتي ” .

أمّا كيف وصل اسم بربوتي إلى الشعر ودخل عالم الأهزوجة فهو ما أوردته الألسن  عنها وعن المناسبة . يقول المحامي محمد عبد الشهيد دحام ، وهو من المتابعين لأحداث السماوة وقارىء محب لأحداث التاريخ  أن المرجع الأعلى للشيعة السيد محمد سعيد الحبوبي أصدر فتوى جهادية  بمحاربة الانكليز كونهم محتلين وطالب المجاهدين بالتوجه إلى الشعيبة جنوب العراق حيث تتمركز هناك قواتهم . فاستنهضت العشائر رجالاتها بالتوجه نحو ميدان القتال . فتحرك الشيخ ( هادي المكوطر  ) من عشائر الفرات الأوسط  ؛ وقدم من الشمال ”  الشيخ أحمد ” شيخ مشايخ عشيرة الجاف الكردية والتقت أثناء توجهها جنوباً بالمجاهدين عند السماوة حيث استقبلتهم العشائر وحيتهم ونحرت لهم الذبائح ودعمتهم  بالأشعار والمفاخر التي تثير الحماسة . ووقف في أحد التجمعات شاعر من شعراء الفرات الأوسط في الحشود ، ومن أجل أن يفخر بشيخ عشيرته الشيخ هادي المكوطر رفع عقيرته وصاح : ” ثلثين الجنة لهادينه ” ؛ ويقصد ( هادي المكوطر ) ومن معه من أتباع حيث أنهم سيذهبون شهداء الدين ومكانهم حتماً الجنة ؛ وهو فخر لا يضاهيه فخر بالمقارنة مع من افتخروا وفاخروا بأنسابهم وأفعالهم .. في تصنيف مدينته بكل جوانبها .

فصول الكتاب الشيقة  :

لاريب إن روح كتابة الرواية والقصة مكنته من سردية تاريخية مشوقة بالتفاصيل بفصول ومباحث ((الجزأين)).

وقد كتب الناقد المثابر عقيل هاشم عن جوهر الكتاب بروحه الإيجابية التي يبذلها بقراءة المنجز الإبداعي العراقي فأكد بعد دراسة ج١ توقف كذلك في ج٢ :عنوان الكتاب جاء مستهلا بسيرة المكان (السماوة -الجزء ٢) للأديب زيد الشهيد  الشاعر والسارد والمترجم. هذا المثقف الدؤوب أراد توثيق مدينته السماوة بالكتابة والصور والوثائق ما يستدعي تصنيف هذه السردية، في قالب «سيرة مكان» وهو رد جميل وعرفان للمدينة المعطاء من قبل كاتب هذه السردية ، تأكيدا على التعلق الروحي بالمدينة والرابط التاريخي بينهما، كما أن السرديات المنثورة بين دفتي الكتاب، بغالبيتها  هي لملمة ذكريات الطفولة والصبا التي عاشها الكاتب زيد الشهيد في  إنها حكاية سيرة مكان. سردية ثقافية واجتماعية لمدينة متنوعة الثقافات ، وشهادة لهوية المكان وساكنيها.

في هذه السيرة تحضر السماوة بشرا وحجرا، هوية وانتماء جغرافيا جميلا، وتاريخا ممتدا في عمق الزمن، فالكاتب مزهوا بانتمائه  لها وهي تقيم علائق روحية وعاطفية معه. في تلك المدينة العظيمة ولد وترعرع في مدارسها.

حيث تركت فيه الأثر العميق ، ذاكرا الحِراك الثقافي  فيها ومنتدياتها وأسماء كوكبة من رجال الفكر والعلم والأدب والفن فيها.

الجنوب والإبداع:

للمكان هالة وتأثير في اللاوعي لدى الأجيال ، تتناقل الجينات الوراثية جيل بعد جيل. تخوم مدن الجنوب شكلت الإستيطان البشري الأول فكانت مهد الحضارة السومرية في الوركاء وأريدو ولكش وأور

وقد ظهرت الكتابة والتعدين والزراعة مع بذور التوحيد لدى النبي ابراهيم الخليل.عليه السلام. مرويات عن جغرافية السماوة ،والمهن الإجتماعية ، التعليم ، أصحاب الحرف مع صورهم وذكرياتهم وكل مايمت للمدينة أرشفه وأرخه في الجزأين.

يستمر الناقد عقيل هاشم بفحص الجزء الثاني بالتأكيد:

السماوة هي بيت الطفولة والذكريات والخريطة المحفورة في المخيلة، أحاديث وحكايات ،  حيث الحدائق والمقاهي، المنثورة فيها والمطلة على النهر ملهم الشعراء ، عالم من السحر مغمورة بالمسرات، ومسورة بمواسم الأفراح والمناسبات السعيدة،

لقد حملت هذه السيرة، المكتوبة بشفافية وجرأة، بمنظور كاتب مثقف سرد مافي ذاكرته مادار على أرض مدينة السماوة إبان نهضتها العمرانية والثقافية وحسب مامضى زمنيا من حوادث لازالت يذكرها أهلها ، اقول الكتاب هو استكمال للجزء الأول  حيث كان فسيفساء جميلة، تكلم عن حقبة تاريخية لمدينة السماوة بأحيائها التراثية ومجتمعها المتآخي، ورموزها، وشوارعها، ومبانيها الجميلة، ومقاهيها ومنتدياتها وأفراحها وأحزانها واستكملها بجزء آخر وربما ستستمر أجزاء أخرى لاحقا ..

إنها هوية مكان،  عالقة في تلافيف الذاكرة الجماعية،  وثقها كاتبها الشهيد بالكتابة والصور والوثائق لتكون شهادة حية وكأنه سِفر مهم  ومرجع توثيقي لتاريخ مدينة وسمها التاريخ بالسماوة.. لعمري أن هذا الجهد الثري ينتفع منه المتلقي والمتخصص بالتاريخ معاً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *