Search
Close this search box.

الشيخ ناجي خميس زهرة لم تتمّ نضجها يدُ القدر

الشيخ ناجي خميس زهرة لم تتمّ نضجها يدُ القدر
ليس كلُّ من رحلَ مات، وليس كلُّ من غابَ غابَ عن الذاكرة. ثمة رجال يولدون وهم يحملون نورًا في جبينهم، كأنما الكلمة كانت تتربص بهم ليكونوا أهلها، والعلم ينتظرهم...

ليس كلُّ من رحلَ مات، وليس كلُّ من غابَ غابَ عن الذاكرة. ثمة رجال يولدون وهم يحملون نورًا في جبينهم، كأنما الكلمة كانت تتربص بهم ليكونوا أهلها، والعلم ينتظرهم ليصعد بهم إلى سُدَته، قبل أن يخطفهم الموت على عجل، كما تُقطف الزهرة في أول تفتحها. من أولئك، كان الشيخ ناجي بن حمادي بن خميس، الذي وُلد في مدينة الحلة سنة 1311هـ، وعاش حياة قصيرة المدى، لكنها بعيدة الأثر.

ولد الشيخ ناجي في بيت بسيط، فكان والده من الكَسبة، يبيع المخضرات في الأسواق، لكن البساطة لم تكن يومًا قيدًا على النبوغ. تعلم ناجي القراءة والكتابة في الكُتّاب، ثم ما لبث أن جذبته اللغة العربية بكل فتنتها، فغاص في أسرار نحوها وصرفها وبلاغتها على يد أخيه الفاضل الشيخ مجيد، فانفتح له بابٌ من الجمال والمعرفة لا يُغلق.

ما كان الفتى يمرّ على مجالس الأدب والفضل في الحلة إلا وجلس فيها مصغيًا، كأنّ في أذنه حاسةً زائدة تلتقط دقائق المعاني وطرائف الأشعار وتعليقات الأديب على الأديب. ومن هنا بدأ يتكون فيه ذلك الحس المرهف والذوق الأدبي الرفيع، وشبّ على شغف لا يُروى بالمعرفة واللغة.

امتلك الشيخ ناجي ذكاءً خارقًا، ليس في سرعة البديهة فحسب، بل في قدرته على النفاذ إلى لبّ المعاني، وسرعة الفهم، وقوة الحفظ. لم يكن طالب علم عاديًّا، بل كان نبوغًا يمشي على قدمين.

ولأن النجف كانت – ولا تزال – محراب العلم ومهوى أفئدة طالبيه، فقد هاجر الشيخ ناجي إليها، وألقى عصا الترحال في ربوعها. جلس بين أيدي كبار علمائها، فدرس الفقه والأصول على أعلام العصر: الشيخ كاظم الشيرازي، والسيد محسن الحكيم، وحضر دروس الخارج على يد الشيخ النائيني والسيد أبي الحسن الأصفهاني. هناك، بدأت مواهبه العلمية تتفتّح، وكان المؤمل أن يكون له شأن كبير في دنيا الفقه والأصول، وأن يلامس مرتبة المرجعية في سنوات قليلة، لولا أن يدَ المنون كانت أسرع.

رحل وهو شاب، لكنه ترك أثرًا لا يُمحى في نفوس من عرفوه وتتلمذوا عليه. يقول أحد تلاميذه – وهو الراوي لهذه السطور – إنه انتهز عطلات الشيخ إلى الحلة ليتلقى على يديه بعض الكتب المقررة في اللغة العربية، ثم درس عليه في النجف كتبًا في المنطق والفقه والبيان، ولاح له – كما لاح لغيره – أن هذا الرجل لم يكن نجمًا عابرًا، بل شهابًا ضاع نوره في فضاء العمر القصير.

كان الشيخ ناجي، إلى جانب علمه، مثالًا في الأخلاق والسجايا النبيلة: كرمٌ فياض، عفة نفس، إباء، وظرفٌ يجمع بين الرصانة وخفة الروح. ولئن كان العلم مجده في النجف، فإن الشعر كان تاجه الذي زيّن جبينه.

لم يكن شاعرًا عابرًا، بل كان شاعرًا مجيدًا، جزلاً، قوي السبك، متين الأسلوب، بعيد الخيال، مشرق العبارة، سامي المعنى. تتقاطع في شعره الحكمة والعبرة، ويلتمع فيه نقدٌ لاذع لا يخدش، بل يُوقظ.

وعلى اثر مرض عضال ، وهو السرطان توفي في الحلّة يوم السبت في الخامس عشر من ذي القعدة سنة(1349هـ) ودفن في النجف الأشرف، لكنّه لم يمت، فبعض الأرواح تعيش في ما خلّفت من أثر، وبعض الأسماء تظلُّ حاضرة في ضمائر من رأوا فيها البذور التي لم تُمهلها الحياة لتنضج، لكنها أينعت في قلوب محبيها، ولن تذبل.

رحم الله الشيخ ناجي خميس، فقد عاش قليلًا، لكنه أعطى كثيرًا، وما كلّ طويل العمر طويل الأثر.([1])

من شعره :

من قصيدة له :

أبى العزمُ أن يلوي على اللومِ حـــــــازمٌ      فحســـبُــــك وهْناً أن يصــــدّك لائــــــمُ

إذا الشمسُ لم تأخذْ مِن العقلِ زينــــــةً      حكتْها بشوهـــــاءِ الخصــــالِ البهائمُ

ومَن لم يحاربْ نفسَه طالَ حربُـــــــــــــــهُ       وليــسَ له بيـــــنَ الأنـــــامِ مُســـــــالِمُ

وإنْ هو لم يكظمْ على النفسِ غيظَـها       شفتْ غيظَها مِنْه العِدى وهوكاظمُ

ومَن لم يدارِ الناسَ كبــــــــــراُ فإنّـــــــــــــه        يداريهـــــم من خيفةٍ وهو راغـــــــــمُ

أرى الناسَ شتّى باتَ يجمعُ أمرَهُــــــــم      على الظلمِ مسدولٌ مِن الجهلِ فاحمُ

قد انتكَسَتْ منها القـــلوبُ فأصبحــــتْ       تروقُ لعينيْها القِبـــــــاحُ الذمـــــــــائمُ

فمِن عالــــمٍ يُثتيه بالرغمِ جاهــــــــــــــــــلٌ       ومِن جاهلٍ يغْريــــه بالجهلِ عالـــــمُ

ومن قصيدة له :

خذْ مِن تعرّفِ داءِ نفسِك صحّـــــــةً             توليكَ عن سقمِ الشكوكِ يقينــــــا

مَن يجهل الـــــداءَ استزادَ بجهلِـــــهِ     داءً على شـــــربِ الدواءِ دفينـــــــــا

مالي أرى الدنيا تمـــــــوجُ بأهلِهـــــــا     فلكـــــــــــاً بكلّ رذيلــــــــــةٍ مشحونــــا

والناسُ تعتقدُ الضـــــــلالَ وإنّمـــــــــا     أعتاضواعن الحقّ اليقينِ ظنونا

والجهلُ خطّ على صحائفِ أهلِــه      دنيا تصحّفُهــــا الخواطــــــرُ دينــــا

والجورُ قد ملأ العوالمَ   قســـــــوةً      حتى استحالَ عواطفاً  وشؤونـــا

قال عنه في البابليات :

” … ومن نوادر المترجم ما كتب به الى العلامة الحجة الشيخ عبد الله المامقاني يستهديه كتابه (مرآة الكمال ) :

أودّ بأنْ أرى في كلِّ يومٍ      مِثـــالا منكَ قُدّسَ مِن مثالِ

وليــــــــــس لديّ مرآة أراه      فعاجِلْني بـ (مرآةِ الكمــــالِ)

وقد كان غير مكثر من نظم الشعر بل لا يقوله إلاّ في موارد مخصوصة ودواع كريمة يدعوه اليها التكريم والوفاء وصدق الودّ والإخاء ومن ذلك ما قاله في زفاف أخي الشيخ حسن وذلك في (18) ذي الحجة سنة (1341ه) :

علِّماهُ السلوَّ ثم اعــــــــــــــــــــذلاه     أو دعاهُ يقفو الهوى مذْ دعاهُ

لا تظنّا الملامَ ينفعُ قلبـــــــــــــــــاً     بهجيرِ الغرامِ طـــــالَ صَــــــــــــداهُ

أبداً يستزيدُ بالعذلِ شَـــــــــــــوْقاً     ربَّ داءٍ مولّـــــــدٍ مــــــــــــــن  دواهُ

الهوى جذوةٌ على العذلِ تذكو     كلهيــــــــبٍ يُذكي الهواءَ لظــــــــاهُ

يا عَذولَيّ كرّرا ذكرَ مَن أهــــ      وى فإنّ الحيــــــــاةَ في ذكــــــــــراهُ

   … وهي طويلة .

وله من قصيدة في رثاء الحسين (عليه السلام) وهي من أول نظمه قالها سنة (1333ه) ذهب مني أولها :

يا هتوفَ الضُّحى إذا كنتَ مِمّـن    أقـــــرحَ الدهرُ جفنَها فشجاهــــــا

فتعالَي فليسَ يُسْعِدُ ثَكْلَـــــــــــــــــــــى    بالبُكـــــــا غيرُ مبتلي ببَلاهـــــــــــا

فلقد فلّ منّي الدهرُ عَضْبـــــــــــــــــًا    حين أودى بغيـــــــاً بعترةِ طـــــــه

همْ كرامُ القبيلِ كهفُ البرايــــــــــــــا    عصمةُ المعْتفيــــــنَ أُسْدُ وغاها

وهم المرتقونَ شـــمّ مَعــــــــــــــــــــالٍ    طائرُ الوهمِ حــــــــطّ دونَ  ذُراها

وهم المخرسونَ شقــــشقةَ الحَـْر     بِ بإطلاقِ ألســــــنٍ مِن قناهــــا

وإذا ما الدخانُ شــبّ بنـــــــــــارِالـ     ـــحربِ أجْلَتْه قُضْبُهُــــــــمْ بسناها

وهي طويلة .([2])

([1] ) تاريخ الحلة :2/269-270

([2] ) انظر البابليات:4/92- 102

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *