Search
Close this search box.

طاولة أنقرة

طاولة أنقرة
انعقدت الطاولة التي انتظرتها الجغرافيا وراقبتها الخرائط، بين بغداد وأنقرة، حيث جلس رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قبالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان...

في الثامن من أيار 2025، انعقدت الطاولة التي انتظرتها الجغرافيا وراقبتها الخرائط، بين بغداد وأنقرة، حيث جلس رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني قبالة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لا ليخوضا حديثاً بروتوكولياً عابراً عن العلاقات الثنائية، بل ليرسما، بحبر الواقع وضرورات المستقبل، ملامح شراكة استراتيجية تتجاوز حدود الدولة التقليدية إلى فضاء الدولة المتفاعلة مع محيطها بتوازن وتدبير. كانت الطاولة أكثر من مجرد اجتماع رفيع المستوى ضمن “مجلس التعاون الاستراتيجي التركي-العراقي”، لقد كانت لحظة اختبار للنيات والإرادات في منطقة لا تعرف السكون إلا لتستعد للعاصفة.

من مقر وكالة الأناضول في أنقرة، شارك الرئيس السوداني في برنامج خاص تناول فيه طبيعة العلاقة العراقية التركية، وسبر أعماقها الثنائية والإقليمية والدولية، في توقيت بالغ الدقة تتزاحم فيه الملفات، وتتقاطع فيه المسارات، وتتشابك فيه المصالح. اللقاء لم يكن لقاء علاقات عامة، بل محطة تحليل واستقراء لجملة من القضايا الشائكة التي تطوّق حاضر البلدين وتستدعي إعادة تعريف المفاهيم لا مجرد تبادل المجاملات الدبلوماسية.

ما كان لافتاً في خطاب السوداني ومشاركته الإعلامية، أنه لم يأتِ بلغة المظلومية ولا بعُقد الماضي، بل بلغة المسؤولية والاستبصار. فالعراق الذي يمثّله السوداني اليوم ليس العراق المنهك الذي يسير بظلّ الغير، بل عراق يحاول إعادة تشكيل موقعه كرقم مستقل في معادلات الإقليم. لقد بدا الرجل وكأنه يحمل تفويضاً شعبياً ومؤسساتياً لفتح صفحة جديدة من الواقعية الاستراتيجية، لا تحتمل الازدواج ولا تُعفي أحداً من التزامات المرحلة.

تم خلال اللقاء توقيع وثائق ثنائية مهمّة، يُفترض أن تفتح أبواب التعاون الاقتصادي، وتكرّس آليات تنسيق أمني وسياسي مستمر. وهذه الوثائق لم تكن أوراقاً للتصوير في نشرات الأخبار، بل نتيجة مشاورات امتدت لشهور، كان أبرزها اللقاء الأمني رفيع المستوى الذي عُقد في منتدى أنطاليا الدبلوماسي في أبريل الماضي، وجمع وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان، في محاولة لتثبيت أسس تفاهم دائم بشأن قضايا مثل مكافحة الإرهاب، وضبط الحدود، واحترام السيادة، وتصفير المشاكل العالقة.

ولعل من بين أبرز ما تجب الإشارة إليه هو تطور موقف العراق بشأن حزب العمال الكردستاني (PKK)، إذ صنفته بغداد في مارس 2024 كمنظمة محظورة، في خطوة اعتُبرت أول اعتراف رسمي بمشكلة مزمنة كانت تعيق التقارب العراقي-التركي. وعلى الرغم من أن العراق لم يصنّف الحزب حتى الآن كمنظمة إرهابية، إلا أن هذا التحول يشير إلى نضج في مقاربة الملف الأمني، من حيث الموازنة بين الاستقرار الداخلي، واحترام حقوق الأقليات، ومراعاة الأمن الإقليمي.

أما على صعيد المياه، فقد شكّل هذا الملف تاريخياً مصدر توتر مزمن بين بغداد وأنقرة، إذ يرى العراق أن نهري دجلة والفرات نهران دوليان ينبغي أن يُحكم تقاسم مياههما وفق القانون الدولي، بينما تصرّ تركيا على وصفهما بأنهما نهران عابران للحدود، يخضعان لاعتبارات السيادة الوطنية. ومع ذلك، استطاع الجانبان في أبريل 2024 أن يتجاوزا هذا السجال التقليدي، بتوقيع اتفاقية استراتيجية بقيمة مليارات الدولارات لتحسين إدارة المياه، والتأسيس لمشاريع مشتركة في قطاع الموارد المائية، تكون سارية لعشر سنوات. وهي خطوة عُدّت تحوّلًا حقيقياً في نظرة البلدين إلى المياه، ليس كمصدر نزاع، بل كفرصة للتنمية المشتركة.

هنا، يجب أن نقف عند فلسفة الرئيس السوداني في إدارة العلاقة مع تركيا. هو لا ينظر إليها من زاوية التبعية أو الاحتواء، بل من بوابة التعاون المتكافئ الذي يراعي مصالح الطرفين. العراق بحاجة إلى تركيا بوصفها دولة محورية في المنطقة، تملك النفاذ الاقتصادي والسياسي والجغرافي، وتركيا بحاجة إلى عراق مستقر يمكن أن يكون رئة تنفس في وسط إقليمي تختنق فيه المبادرات. ومن هنا، فإن السوداني لا يتعامل مع الملفات الساخنة مثل سوريا أو الحدود الشمالية أو المياه، بوصفها ألغاماً، بل بوصفها أسئلة مشتركة بحاجة إلى إجابات ثنائية.

لقد عبّر فخر الدين ألتون، رئيس دائرة الاتصالات في الرئاسة التركية، بوضوح عن هذا المنحى الجديد، حين قال إن الزيارة ستناقش العلاقات الثنائية والتطورات الإقليمية والعالمية، وستسفر عن توقيع وثائق تهدف إلى تعزيز التعاون. ولم تكن تصريحاته تجميلية، بل عكست فحوى الحوارات المعمقة التي جرت بعيداً عن عدسات الإعلام، والتي تناولت، من بين ما تناولت، المتغيرات السياسية في سوريا، والملف الفلسطيني، وتداعيات الحرب على غزة، التي باتت تختبر ضمير الإقليم وفاعليته وقدرته على صياغة موقف مشترك يتجاوز الشجب والبيانات.

ما يميّز هذه الزيارة عن سابقاتها هو نضج اللحظة السياسية العراقية، وتقدّم رؤية السوداني بوصفه رجل دولة يعرف كيف يفاوض، ويُقدّر مصلحة بلاده دون أن ينزلق في خطاب التصعيد. فالعراق اليوم يعيش لحظة انتعاش تدريجي، تحاول حكومة السوداني أن تؤسس خلالها لتوازن جديد في السياسات الإقليمية، قائم على الحضور لا الانكفاء، وعلى الشراكة لا الارتهان.

ومن اللافت أن اللقاء الأخير بين أردوغان والسوداني لم يكن الأول، فقد التقيا سابقاً في إسطنبول ونيويورك، مما يدل على وجود خط تواصل دبلوماسي مستمر، يعبّر عن تصميم مشترك لتجاوز الفجوات وتثبيت قواعد التفاهم. لكن لقاء الثامن من أيار في أنقرة كان الأهم، لأنه جاء بعد سلسلة من التفاهمات الأمنية، والاتفاقيات المائية، والتغيرات في الموقف العراقي من الملفات الإقليمية الحساسة.

إن العلاقة العراقية التركية ليست خياراً تكتيكياً عابراً، بل قدر جيوسياسي تحكمه ضرورات التاريخ والجغرافيا. ومن هذا المنظور، فإن ما يجري اليوم بين بغداد وأنقرة ليس مجرد تحسين للعلاقات، بل محاولة لبناء معمار سياسي جديد يليق بثقل البلدين ودورهما في صياغة توازنات المنطقة. وإذا ما استمرت هذه المقاربة، فإن العلاقة الثنائية قد تصبح نموذجاً يمكن أن يُحتذى به في علاقات دول الجوار الأخرى، التي ما زالت تعيش على حواف الأزمات وتحت ظلال سوء الفهم.

بقي أن نقول إن نجاح هذه العلاقة لا يُقاس فقط بعدد الاتفاقيات الموقعة، بل بمدى تفعيلها، وإعادة توطينها في مؤسسات الدولة، وفي سياسات الحكومة، وفي وعي النخبة والجمهور. وهنا تقع المسؤولية على حكومة السوداني في أن تُحوّل هذا الزخم إلى سياسات تنفيذية، وعلى الجانب التركي أن يترجم نواياه الإيجابية إلى خطوات ملموسة تحترم السيادة وتدعم الاستقرار.

في النهاية، فإن طاولة أنقرة لم تكن خشبة حوار فقط، بل خشبة اختبار لما إذا كان بالإمكان تحويل التوتر إلى تفاهم، والماضي إلى مستقبل. وإذا ما استمرت هذه الروح، فقد نكون أمام ولادة شراكة إقليمية نادرة، في زمن يغلب عليه الاصطفاف والانقسام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *