Search
Close this search box.

قراءة في فلسفة الدين والقانون عند السيدمحمد صادق الصدر ـ قدس سره

فلسفة الدين والقانون عند السيد محمد صادق الصدر
امتازت العقود الثلاث المتأخرة من القرن العشرين بنهضة فكرية كبيرة  في مجال العلوم المقارنة سواء على مستوى الأديان أم على المستويات العلمية....

امتازت العقود الثلاث المتأخرة من القرن العشرين بنهضة فكرية كبيرة  في مجال العلوم المقارنة سواء على مستوى الأديان أم على المستويات العلمية ذات العلاقة والطبيعة الاجتماعية للإنسان، ومنها القوانين التي تسير معظم المجتمعات في ضوء قواعدها وأوامرها ونواهيها، ومن المؤكد أن تتمخض هذه المداولات والمساجلات الفكرية في شتَّى العلوم الإنسانية عن نتيجة تتقارب من خلال معطياتها مناهج ومفاهيم كانت بالأمس القريب متنافرة ومتضادة، وهو ما نراه في منظومة القوانين الحاكمة للمجتمع في البلدان العربية والإسلامية التي استطاعت إن تفلت من طوق العزلة والانزواء عن التقدم والتطور الإنساني، مع الاحتفاظ بالطابع المتميز للثقافة العربية الإسلامية، وهو أنموذج قلَّ نظيره في المجتمعات الأخر التي فقدت السمة الذاتية في تشريعاتها وتقنيناتها الداخلية، متأثرة بموجة التغريب والتشريق الثقافي الذي بدت بوادره في أوائل القرن التاسع عشر بفعل الثورة الفرنسية .

ولم يكن مفكرو العالم الإسلامي بمعزل عن هذا التوجه بعد أن بات في حكم اليقين تأثر المنظومة الحكمية في الشرق الإسلامي بما يرد على العالم العربي من صراعات الغرب المختلفة، على أن الموائمة بين التشريعات الإسلامية والوضعية لم تكن بالصورة السلسة أو الجاهزة، بل امتازت بالتنظير المركز للمباني القانونية في كلا المدرستين الإسلامية والوضعية، والذي وجد هذا المقدار من التداخل الايجابي في التشريعات العربية بصورة خاصة .

جهد الفقهاء المسلمون في هذا المضمار أيما جهد، وكانت حصيلة تلك الدراسات والبحوث التي اهتمت ببيان الأسس القانونية النافعة المجتمع الإنساني في الشريعة الإسلامية، التي ارتأوا من خلال توضيحها وتقديمها كونها قواعد يمكن الاستناد عليها كبديل عن التقنينات الغربية ، كانت حصيلتها أن نُظمت القوانين في الدول العربية بما يتلاءم مع الشريعة الإسلامية، على الرغم من ثقافة  التقليد المتبعة في عالمنا العربي لكل مستورد من الغرب المسيحي .

وفيما يتعلقً بالسيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر ( ت 1999 )، فقد ناقش في كتبه ودروسه التي كان يلقيها على طلاب بحث الخارج النظريات القانونية الحاكمة في العالم، مبينا وجه الضعف الذي يعتري تلك النظريات موضحا بعد ذالك الحل الأمثل والذي يتناسب ليس فقط  مع المجتمعات القانونية، بل حتى في المجتمعات الأوربية على الرغم من اعتناق أوروبا للمسيحية وليس الإسلام، باعتبار إن للأديان هدف أسمى واشرف من الامتيازات التي ضحى البعض من المنتفعين بمبادئ الدين المسيحي في سبيلها .

وممَّا لا يخفى الأثر الذي تتركه مثل تلك الإسهامات القانونية، على الرغم من تصنيفها في خانة فلسفة القانون، إلا إنَّها تساهم في تطوير النظم القانونية بما يتلاءم مع مقتضيات الشريعة وكذلك استجابتها إلى دعاوى الفطرة الإنسانية، ومع المستجدات الحياتية التي تحتمها الظروف البيئية والاجتماعية والثقافية المتطورة باطراد، والتي يساعد فيها تقارب الثقافات والحضارات الإنسانية بعضها مع البعض الأخر بفعل التقارب ألمواصلاتي المسموع والمرئي والمتطور باطراد أيضا بفعل التقدم التكنولوجي والعلمي.

إنّ ” الصدر ” إذ يتحدث عن القانون إنما يقصد خصوص القانون بمعناه العام الشامل ولذلك نراه يقول بان الموجود هو المصاديق والجزئيات والحوادث الفردية، وهي التي يكشف عنها القانون أم الفكرة  أيا كان، أي أن متعلقة في الجزئيات التطبيقية من خلال طرائق كشفها وبيانها، ومن هنا يكون القانون ما نفهمه من فعله سبحانه وليس ذلك معناه حقيقة العلاقة بين الأشياء في الخارج على واقعيتها، وإنما ما نستطيع نحن إن ندركه من فعله سبحانه فيها، ولذا نرى إن معظم الأشياء أم لنقل القوانين تتغير وتتغير ولا تثبت على حال وما ذلك إلا للقصور التي تعانيها القوانين البشرية في فهم واقعية الممكنات أم  المصاديق وفعل الله تعالى فيها ـ أن صح التعبير، وهو دليل على قصور العقل البشري أم الفكرة البشرية  في إدراك القانون العام الشامل الكامل الذي يدير هذا الوجود، وإلا لما تبدلت ولا تغيرت القوانين([1]).

   وقد علل ” قدس ” هذا التهافت في عدم إمكانية القوانين الوضعية من التناغم والانسجام مع الحال الحقيقي للأشياء إلى إن القوانين الوضعية تعاني قصورا في الأساس الذي تنطلق منه، فهو  يقسم البديل القانوني الذي يمكن أن يحل محل القانون التام الكامل متمثلا بالقانون الإلهي الواقعي إلى قسمين رئيسيين لا ثالث لهما الأول : عدم النظام في المجتمع إطلاقا والذي يقول في توضيحه  انه ساقط في نفسه ولا يريده أي شخص من البشر للمجتمع فيكون المجتمع جحيما لا يطاق، أم كما يعبر البرغماتيين الجدد بأن البديل هو ـ الفكرة بحد ذاتها  ـ التي يضعونها هم وقيمة تلك الفكرة فيما تشير إليه من نتائج متوخاة لحل القضايا المعروضة في محلها، الثاني : القانون الوضعي الذي يسنه البشر بغض النظر عن الرسالات السماوية وهو يقسمه هنا إلى مصدرين رئيسيين أما أن يكون نابعا من العقل وأما أن يكون نابعا من النفس، فأسقط الثاني من كونه دليلا على حجية التقنين، وبقي استناد القانون الوضعي على الدليل العقلي الذي يعبر عنه ” جارلس بيرس ” بـ ” خطة العمل ” التي تعتبر ذات قيمة فيما لو تمكنت أن تحل كمية من القضايا التي يمكنها أن تتوصل إلى الحل الواقعي.

فلا يكون عند ذلك إلا تعيين النظام الإلهي العادل والتام بديلا لهما، بالإضافة إلى المباني الفلسفية فان القانون الوضعي إنما يكون متأثرا ( بشهواتنا ومصالحنا وطرقنا الفاسدة والملتوية )، ومن المؤكد أن التجارب التي تمر على الناس عبر التقادم الزمني للقوانين ووضعها موضع التنفيذ تصقل تلك القوانين وتجعلها أكثر تفهما لواقع الحال وهو ما نراه جليا من خلال تعديل القوانين ليتلاءم مع المتغيرات التي يمر بها المجتمع، ويعود السبب في ذلك أن التجارب تثبت خطا الشكل الأول من المادة ثم يعدلوه فتثبت التجارب خطأ الشكل الثاني ثم يعدلوه فتثبت التجارب خطأ الشكل الثالث من المادة وهكذا إلى أن تثبت خطأهم مائة في المائة ([2]).

وبقي هذا الأمر حتى في أكثر الدول انفتاحا سياسيا أم في الدول الديمقراطية خصوصا إذ تحولت الاقليه الراسماليه في المجتمع إلى أكثريه حاكمه في المجالس النيابية والمجالس التشريعية فكانت القوانين متناغمة مع مصالحها وطموحاتها ألاقتصاديه والسلطوية، وبما أن الحديث وصل إلى المباني التي أسست على أساسها معظم التشريعات الغربية الحاكمة اليوم، على فرض أنها القواعد الفلسفية والمنطلق التي تمنهج للمشرع الغربي سن التشريعات والقوانين، كان لابد لنا من معرفة ولو فكرة بسيطة عن المبادئ والنظريات التي تعتبر المبدأ للقوانين الغربية ألحديثه والتي من أهمها، نظرية العقد الاجتماعي التي أخذت حيزا كبيرا من دراسات المختصين في التاريخ القانوني الغربي بصورة عامه، وبما أن السيد الشهيد ” الصدر ” كان من أولئك المفكرين الذين يبحثون في الأصول ألعامه للفلسفات الحياتية المختلفة والتشريعات الحية النافذة وتقييمها على أساس مقارنتها بالنظرية القانونية والبنية التشريعية الإسلامية، للحصول على نتيجة تجريبية واقعيه مستله من آليات إجرائية شكليه مفادها قدرة الفكر القانوني الإسلامي على أن يكون البديل الناجح والدائم والوحيد عن كل الزخم القانوني الوضعي والذي سوف تلجأ إليه الإنسانية في مراحل قادمة كبديل لابد منه بعد أن تثبت القوانين الوضعية ضعفها وخورها أمام التحديات ألحياتيه القادمة، فقد نقد “الصدر” هذه النظريه وناقش آراء مؤسسيها وبين وجه الموائمة بينها وبين بعض المباني الإسلامية المشابهة لها([3]).

 

[1] محمد الصدر، الجمعة التاسعة، الخطبة الثانية، 17 محرم 1419.

[2]  محمد الصدر : الجمعة الرابعة عشر , الخطبة الأولى , 22 ربيع الاول1419 .

  [3] محمد الصدر : نظرات إسلاميه في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الفرنسي , ص 34 .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *